من قليوب إلى غزة: قطرة الماء تكشف عورة العالم
في مدينة قليوب وقرى مركزها، انقطعت المياه ليومين كاملين. لم يكن الأمر كارثة، لكنه كان كافيًا ليُربك تفاصيل الحياة اليومية مثل الطهي، التنظيف، الاستحمام، وحتى شُربة الماء التي نعتبرها من المسلّمات. ارتفعت الأصوات، تساءل الناس، غضبوا، كتبوا على صفحات التواصل، ثم انتظروا. وفي النهاية، عادت المياه، وعادت الحياة إلى مجراها الطبيعي.
لكن في غزة، لا تعود المياه. ولا تعود الحياة.
في غزة، لا يوجد جدول صيانة، ولا شركة مياه، ولا خط ساخن لتقديم الشكاوى. هناك فقط حصار، وجوع، وعطش، وأطفال ينامون على صوت القصف ويستيقظون على صمت العالم. هناك أمهات يجهشن بالبكاء أمام رضّع لا يجدون قطرة حليب، وشباب يبلّون ريقهم بالتراب، وشيوخ يرفعون أيديهم للسماء بعدما أُغلقت في وجوههم كل الأبواب.
في 22 يوليو، أعلنت مصادر طبية وفاة الطفلين يوسف الصفدي من شمال غزة، وعبد الحميد الغلبان من خان يونس، نتيجة المجاعة وسوء التغذية. لم يكونا الوحيدين، بل جزءًا من مأساة متصاعدة، حيث أكدت وزارة الصحة الفلسطينية آنذاك أن عدد ضحايا المجاعة بلغ 281 شخصًا، بينهم 114 طفلًا.
وفي شهر يوليو وحده، تم تشخيص أكثر من 12 ألف طفل بسوء التغذية الحاد، وهو أعلى رقم شهري مسجل، ويمثل زيادة بنسبة 600% منذ بداية العام.
واحد من كل أربعة أطفال في غزة يعاني من سوء التغذية الحاد، وهو أخطر أشكال الجوع، وله عواقب مميتة على المدى القصير والطويل.
وفي وسط هذا الصمت الدولي، تبرز مصر.
الدولة الوحيدة التي لا تزال تقاتل من أجل إنسانية غزة، رغم ما تمر به من تحديات اقتصادية وضغوط سياسية. مصر لا تكتفي بالتصريحات، بل تفتح المعابر، وترسل القوافل، وتدفع ثمن موقفها كل يوم.
مصر لا تقول “نحن مع غزة”، بل تقول “نحن لغزة”.
ما حدث في قليوب كان درسًا.
درسًا صغيرًا، لكنه عميق.
علّمنا أن قطرة الماء ليست تفصيلًا، بل حياة.
وأن الحرمان منها، حتى ليومين، يكشف هشاشة الإنسان أمام أبسط احتياجاته.
فكيف بمن يُحرم منها لأشهر؟ كيف بمن يُحاصر في وطنه، ويُمنع من التنفس، ويُجبر على الصمت؟
غزة لا تحتاج إلى تعاطف موسمي، ولا إلى هاشتاجات عابرة.
غزة تحتاج إلى ضمير حي، وإلى صوت لا يخاف، وإلى فعل لا ينتظر الإذن.
وإذا كانت قليوب قد اهتزت من أجل المياه، فليت العالم يهتز من أجل غزة.
غزة لا تحتاج دموعنا… بل قطرة ماء.
وما لم يتحرك العالم، فسيكتب التاريخ أن الإنسانية ماتت عطشًا على أبواب غزة.
من قليوب إلى غزة: قطرة الماء تكشف عورة العالم
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.