أعلى من الرد..
أعلى من الرد..
بقلم: محمود السيد محمد
في زمنٍ كَثُرَ فيه اللغو، بات الصمتُ ملاذًا للعقلاء، وراحة لمن أرهقهم الضجيج،
فليس كل ما يُقال يُسمَع، وليس كل ما يُسمَع يستحق الرد.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال:
“من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت.”
توجيهٌ نبويٌّ بليغ، ودعوه للإرتقاء، تعلمنا أن الصمت ليس ضعفًا، بل أحيانًا عباده، لا يشعر بها إلا العاقل.
فما بال أقوام جعلوا الغيبه تسلية، والنميمه فُكاهة؟!
وما أكثر الذين يتحدثون، ولا يُجيدون إلا الطعن واللمز! يظنون أن الكلام قوه، والثرثره سلطة، وأنهم بحديثهم عن الآخرين يعلون، وما علموا أنهم يغرقون في مستنقع الغيبه والنميمه..
قيل لسقراط ذات مرة: “شتمك فلان”، فقال كلمته الشهيره:
“إذا ركلني حمار، هل أركله؟”
فلسفه كاملة في جملةٍ واحده. الحكيم لا يرد على كل ناعق، لأنه يعرف قدر نفسه، ويوقن أن الجدال مع الجاهل خساره، وأن بعض الردود تمنح الصغائر حجمًا لا تستحقه..
من يعرف قيمته لا يلهث لإثباتها في أعين الناس.. والصراخ ليس دليلًا على القوه، كما أن الصمت ليس دومًا ضعفًا.
بل هو أحيانًا قمة الذكاء، وأوج الحكمه، وملاذ الناضجين الذين اختاروا ألا يضعوا أنفسهم في ساحةٍ تُدار فيها المعارك بالصوت العالي لا بالحجة.
وما أجمل أن يكون صمتك ردًّا يُربك، وحديثك صاعقه لا تُطلق إلا عند الحاجة.
كم من ألسنة تُسيل الحقد، وتقتات على سيرة الآخرين؟
كم من قلوب امتلأت بالغل، حتى باتت لا ترى في الناس إلا عيوبهم، وإن لم تجد عيبًا، اختلقته؟ هؤلاء لا يزعجهم فعلك، بل يوجعهم نورك، ويُقلقهم استقرارك.
ولعلّ من التجارب التي ترسخت في ذاكرتي، أنني ما رأيت ناجحًا بحق، إلا وكان مشغولًا ببناء نفسه، منشغلًا بتحقيق أهدافه، بعيدًا كل البعد عن تتبع الناس والخوض في شؤونهم.
الناجح لا يملك وقتًا ليتحدث عن غيره، لأن سعيه نحو القمم يملأ يومه وفكره. لا يُحب الضوضاء، ولا ينسجم مع الحمقى..
وعلى النقيض تمامًا، ما رأيت فارغًا، أو فاشلًا، إلا وتراه غارقًا في تفاصيل الآخرين؛ يتحدث عنهم أكثر مما يتحدث عن نفسه، يراقب خطواتهم لا ليقتدي،
بل ليحطّ من قدرها، ينظر ويتفلسف، وكأنه خبير في كل شيء، وهو في حقيقة الأمر… لا شيء. هؤلاء لا يملكون شيء يُشغلهم، فيبحثون عن سيرة أحدٍ يسدّون بها فراغهم الداخلي، ويشعرون بأن لهم شأنًا، وإن كان زائفًا.
المرء إذا عرف قدر نفسه، شُغل بها، وإذا عجز عن النهوض، شغلته عثرات الآخرين.
فيا من أرهقه الحديث، وتعب من تكرار التبرير، لا تُجِب كل من نطق، ولا ترد على كل سهمٍ طائش. دعهم في ضلالهم،
وتذكّر أن تختار معاركك بعنايه، واصمت حين يكون الصمت أعلى من الرد.
أعلى من الرد..
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.