
العودة إلى المدارس، عودة إلى الحياة
مع إشراقة عام دراسي جديد، تستيقظ البيوت على صوت الحقائب وهي تُجهّز، وعلى ملامح الأطفال التي تجمع بين الحماس والقلق، بين الفضول والدهشة. إنها لحظة لا تتكرر إلا مرة كل عام، لكنها تحمل في جوفها معنى أكبر من مجرد بداية فصل دراسي جديد؛ إنها عودة الإنسان إلى رسالته الأولى: رسالة التعلّم.
فالمدرسة ليست أربعة جدران وسبورة وجرساً يرنّ، بل هي المعمل الكبير لصناعة الإنسان، حيث تُصاغ القيم وتُبنى الشخصية ويُرسم المستقبل. إن كل درس يكتبه الطالب، وكل فكرة يتعلمها، هي لبنة في بناء إنسانيته. فالتعليم ليس تحصيلاً لدرجات تحفظ في سجل، بل هو بناء عقل قادر على التفكير، وقلب يعرف كيف يميز بين الخير والشر، ونفس تدرك أنها خُلقت لتكون خليفة لله في أرضه.
قد يظن الطالب أن مهمته الكبرى هي الحصول على شهادة أو تجاوز امتحان، لكن النجاح الحقيقي لا يُقاس بالدرجات وحدها، بل يُقاس بقدرته على أن يعيش إنساناً نافعاً لنفسه ولغيره. التعليم – في جوهره – هو أن يتعلم كيف يعيش، كيف يحلم، وكيف يسعى لتحقيق هذا الحلم بجدارة. ولقد قال رسول الله ﷺ: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة». فالمدرسة ليست طريقاً إلى وظيفة فحسب، بل يمكن أن تكون طريقاً إلى الجنة، إذا صاحبتها النية الصالحة.
والمعلم في هذه الرحلة ليس مجرد ناقل للمعلومات، بل هو القدوة والمربي، الحارس على عقول الغد وقلوبهم. كلمة منه قد تصنع وعياً جديداً، ونظرة منه قد توقظ طموحاً نائماً. إنه امتداد لرسالة الأنبياء، ولذلك قالوا قديماً: “كاد المعلم أن يكون رسولاً”. إن تقديرنا للمعلم ليس ترفاً، بل هو تقدير للحياة نفسها، لأن الأمم لا تنهض إلا حين ترفع من قيمة مربيها.
ولا ينبغي أن ننسى أن البيت هو المدرسة الأولى، فالأسرة هي التي تزرع في الطفل ما قد تعجز المناهج أحياناً عن غرسه: قيمة الصدق، وأدب الحوار، واحترام الوقت. المدرسة والأسرة جناحان لا غنى لأحدهما عن الآخر.
إن العودة إلى المدارس ليست عودة إلى الكتب والدفاتر فحسب، بل هي عودة إلى اكتشاف الذات، وبناء الأمل، وتجديد العهد مع الله أن يكون العلم عبادة، والنجاح رسالة، والحياة كلها ساحة للتعلّم. فكل عام دراسي جديد ليس مجرد بداية في التقويم، بل هو بداية جديدة في رحلة العمر، رحلة نحتاج فيها إلى الإيمان بالعلم، وإلى الإخلاص في طلبه، حتى نترك أثراً فريداً يليق بنا كأمة كرمها الله بالعلم والقرآن.
العودة إلى المدارس، عودة إلى الحياة
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.