(الكلمة وأثرها على الفرد والمجتمع).. ..(جزء1 )
(الكلمة وأثرها على الفرد والمجتمع)
(جزء1 )
د. محمد المصرى / باحث إسلامى
الكلمة أمانة كبيرة، ومسؤولية عظيمة، ويترتب على التلفط بها تبعات خطيرة.. ولا يعرفَ ذلك إلا مَن أدرك قيمة الكلمة، ووعي أثرُها في حياة الأفراد والأمم، فالكلمة قد تُحيي همة، وتبني أمة، وعلى النقيض، فقد تَسقُط بها قِمة، وتهلَك بها أمة..!
ولذا، عنى الإسلام عناية كبيرة بالكلمة، ووضع لها رقابة صارمة، ويقظة واعية، قبل التلفظ بها، لتكون بناءة لا هدامة، منضبطة لا منفرطة. كما جاء في قوله تعالي: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18).
وربط سيد البشر صلي الله عليه وسلم، بين الإيمان والنطق بالكلمة، لتخرج عن إيمان عميق، وتفكّر دقيق.. عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت..” (رواه البخاري ومسلم).
وما قامت السموات والأرض إلا بكلمة الحق، وما استقام أمر الدنيا، وانصلحت أحوال العباد، إلا بتقوى الله، والقول السديد..
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 70-71
وما تسرّب الفساد، وخُرِّبت العلاقات، إلا بعد أن استهان الناس بأمانة الكلمة ومسؤوليتها.. فكم من فتن قامت، وكوارث حلّت، وأحقاد انتشرت، وخلافات استشرت، بسبب من لا يعرف للكلمة قيمة، ولا لتبعاتها من عواقب وخيمة
أولا: أثرالكلمة على الفرد
1- تهذيب القرآن الكريم للفرد والتنبيه على أهمية الكلمة
– قال سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) (إبراهيم/ 24-26).
إنّ الكلمة الطيبة الحسنة الجميلة تترك أثرها الحسن الجميل في النفس، لذلك اعتبرها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) صدقة لحاجة الناس إليها كحاجة الفقير إلى العون المادّي، حين قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «الكلمةُ الطيِّبةُ صدقةٌ». أمّا الكلمة البذيئة الفاحشة، الكلمة الجافة الجارحة المنفرة تترك أثرها السيئ في النفس، وربما تركت جُرحاً لا يندمل، أو وضعت حواجز نفسية يصعب إزالتُها، أو تسببت بمشاكل وأزمات، أو كانت سبباً في منع الإصلاح بين الناس.
بالنظر إلى أهمية الكلمة وآثارها, وما يترتب عليها من عواقب ونتائج نجد أننا لا بدّ من التفكّر والتدبّر قبل إطلاق العنان للّسان بالكلام لأن كثيراً من الكلام أورث صاحبه الندامة والحسرة, وربما أودى به إلى المهلكات
– قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنا) البقرة-83
-قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الإسراء-53
2- السنة النبوية حثت على الاهتمام بما يقوله الفرد المسلم فى تعامله مع الآخرين.
* مشهد من مشاهد الإسراء حينما رأى سيد البشر صلوات الله عليه جحرا صغيرا يخرج منه ثورُ كبيرُ وعندما أراد الثور أن يعود للجحر مرة أخرى فلم يستطع فقال سيدنا جبريل هذه الكلمة تخرج من فم المرء فإن أراد أن يرجعَها فلا يستطيع.
* كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال “لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه : تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال : ثم تلا : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم – حتى بلغ – يعملون } ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه : قلت : بلى يا رسول الله قال : رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد . ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله، قلت : بلى يا رسول الله، قال : فأخذ بلسانه، قال : كف عليك هذا . فقلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكُب الناس في النار على وجوهِهِم، أو على مناخِرِهم، إلا حصائدُ ألسنتِهم”.
الراوي: معاذ بن جبل المحدث: الترمذي – المصدر: سنن الترمذي – الصفحة أو الرقم: 2616
.
*عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) رواه البخاري
عن عقبةَ بنِ عامر قال: قلت: يا رسولَ الله، ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانَك، ولْيَسَعْك بيتُك، وابكِ على خطيئتك))؛ قال أبو حسن: هذا حديث حسن؛
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه – رَفعه – قال: ((إذا أصبح ابنُ آدم، فإن الأعضاء كلَّها تكفر اللسان، فتقول: اتقِ اللهَ فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوجَجْت اعوججنا”؛ رواه الترمذي، وابن أبي الدنيا.
تكفِّرُ اللِّسانَ”، أي: يَخضَعون ويتَذلَّلون له، من التَّكفيرِ الذي هو انحناءُ الرَّأس وطَأْطَأتُه قريبًا من الركوعِ كما يَفعَلُ مَن يُريدُ تَعظيمَ صاحبِه، وقيل: معنى “تُكفِّر اللِّسانَ”، أي: تُنـزِّلُ الأعضاءُ اللسانَ مَنزِلةَ الكافرِ بالنِّعمِ.
وقال صلى الله عليه وسلم: “لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه”
عن عدي بن حاتم قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النارَ، فأشاح بوجهه، وتعوَّذ منها – ذكر شعبة أنه فعله ثلاث مرات – ثم قال: ((اتقوا النارَ ولو بشقِّ التمرة، فإن لم تجدوا، فبكلمة طيبة)).ابن ماجه (185)؛ مختصر مسلم (535)؛ صحيح الجامع الصغير (115).
(… يتبع)
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.