المتحف المصري الكبير نموذجا فريدا.. حينما تصبح العمارة سلاحا ضد تغير المناخ.
نهاد الشيمي

المتحف المصري الكبير نموذجا فريدا.. حينما تصبح العمارة سلاحا ضد تغير المناخ.
المتحف المصري الكبير نموذجا فريدا.. حينما تصبح العمارة سلاحا ضد تغير المناخ.
المتحف المصري الكبير يقدم نموذجا فريدا لمؤسسة ثقافية تبنى على أسس الاستدامة وتسعى إلى الحياد الكربوني، ليصبح بذلك أول متحف في أفريقيا والشرق الأوسط
يحصل على شهادة” EDGE Advanced” للبناء الأخضر من مؤسسة التمويل الدولية” IFC” عام 2024.
ينهض المتحف المصري الكبير ليعيد صياغة العلاقة بين التراث والبيئة، إنه ليس مجرد مخزن ضخم للأثار أو واجهة سياحية جديدة،
بل مشروع حضاري يدمج بين حفظ الماضي وصناعة المستقبل، بين جماليات العمارة العصرية ومتطلبات التكيف مع التغير المناخي.
ونظرا لأهمية المتحف المصري الكبير خاصة من الناحية البيئية، تسلط وكالة أنباء الشرق الأوسط في تقرير لها اليوم الضوء على إنجازاته في الاستدامة والحياد الكربوني،
وتصميمه المعماري الذي يجمع في طياته بين التراث والحداثة، ليقدم تجربة حضارية وثقافية فريدة ترتبط بالماضي وتواكب المستقبل.
وضعت الهندسة المعمارية للمتحف المصري الكبير لتتماهى مع البيئة المحيطة لا لتتصادم معها، فقد اعتمد المهندسون على واجهات زجاجية هائلة.
تسمح بتدفق الضوء الطبيعي طوال ساعات النهار، الأمر الذي يقلل الحاجة إلى الإضاءة الصناعية ويوفر قدرا كبيرا من الطاقة،
كما أن السقف العاكس للحرارة يقلل من امتصاص أشعة الشمس، بينما تعمل المواد العازلة المستخدمة في البناء على خفض الحمل الحراري، مما يخفف الضغط على أنظمة التبريد الداخلية.
فمن جانبه، قال المهندس هاني الضوي، أحد الخبراء المعماريين المشاركين في دراسات الاستدامة الخاصة بالمتحف، “واجهات المبنى والسقف جرى اختيارهما بعناية
لتقليل الحمل الحراري، وأنظمة الإضاءة والتهوية تم ضبطها أوتوماتيكيا لتتكيف مع أعداد الزوار، مما يحقق كفاءة عالية ويخفض البصمة الكربونية”.
أما مجدي شاكر، كبير الآثاريين بوزارة السياحة والآثار، أكد أن المتحف المصري الكبير يتميز بتصميمه الذي يرتكز على مفاهيم الاستدامة البيئية، ليطلق عليه بحق لقب “المتحف الأخضر”
حيث أن جميع المواد المستخدمة في بناء المتحف هي مواد صديقة للبيئة، كما تم اختيار بلاطات السقف البيضاء لتقليل الحاجة إلى تكييف الهواء والإضاءة الصناعية بشكل كبير، مما يعزز الاستفادة القصوى من الإضاءة الطبيعية.
وقال إن تصميم المتحف اعتمد على ألوان مستوحاة من ألوان المقابر والمعابد المصرية القديمة، وهي ألوان مريحة للعين وتناسب العرض،
وحرص المتحف على اعتماد حفظ دقيق للآثار حيث يتم التركيز على الإضاءة والرطوبة ودرجة الحرارة لكل قطعة أثرية على حدة.
كفاءة الطاقة وخفض الانبعاثات:
يقدم المتحف المصري الكبير مثالا عمليا على كيفية تطبيق مفهوم الحياد الكربوني في مؤسسة ثقافية فبجانب التصميم الذكي، جرى دمج أنظمة للطاقة المتجددة
مثل الألواح الشمسية، كما استخدمت إضاءة LED عالية الكفاءة وأنظمة تحكم رقمية لضبط التشغيل وفق حركة الزوار.
وفي هذا الصدد، أكدت الدكتورة منال عوض القائم بأعمال وزير البيئة، أن المتحف المصري الكبير يعد من أهم المشروعات القومية،
مشيرة إلى أن حصوله على تقرير معتمد دوليا لقياس انبعاثاته الكربونية بعد المصادقة عليه من الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات
وبالتعاون مع المجلس الوطني للاعتماد (EGAC)، يمثل خطوة تعكس التزامه بالمعايير الدولية للحفاظ على البيئة وأن ذلك يأتي في إطار خطة شاملة
تستهدف خفض البصمة الكربونية عبر تحسين كفاءة الطاقة وإدارة الموارد وتعزيز الاعتماد على الممارسات الصديقة للبيئة.
التكيف مع التغيرات المناخية:
ولم يغفل المتحف التحديات المناخية التي تهدد التراث العالمي، فقد جرى تزويد المخازن والمعامل بأنظمة عزل دقيقة وأجهزة تحكم في الحرارة والرطوبة،
مما يضمن استقرار البيئة الداخلية حتى في ذروة موجات الحر أو العواصف، هذه الأنظمة، بحسب دراسات منشورة في “المجلة الدولية لحفظ التراث” (2021)،
تمثل خط الدفاع الأول ضد تلف المواد العضوية والأحجار والمعادن، ما يجعل” GEM” واحدا من أكثر المتاحف أمانا لحماية مقتنياته من آثار المناخ المتغير.
فمن جانبه، قال الدكتور عاطف كامل أستاذ الحياة البرية وخبير الاستدامة بجامعة القاهرة – في تصريح للوكالة – إن المتحف ليس مجرد مكان لحفظ الآثار،
بل يمثل أيضا نموذجا للتكيف مع التغير المناخي، حيث يوفر بيئة مثالية لحماية المقتنيات من التلف بفعل الحرارة والرطوبة، وهو ما يضعه في مصاف المؤسسات العالمية التي تستجيب لتهديد المناخ”.
وبدوره، أكد الدكتور أحمد غنيم الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف، أن “المتحف يعد أول متحف مصري يحصل على شهادة بأنه صديق للبيئة،
وذلك بفضل التنسيق الدائم مع وزارة البيئة وحرص الهيئة على تطبيق رؤية مصر 2030 للتنمية المستدامة”.
ولم يكتف المتحف بالحصول على شهادات دولية، بل تبنى سياسة شفافة في تقييم انبعاثاته، فقد ذكرت الدكتورة منال عوض أن وزارة البيئة نسقت مع سكرتارية اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ
وهذامن أجل تحقيق التعادل الكربوني للمتحف خلال التشغيل التجريبي.. مشيرة إلى أن تقييما شاملا للبصمة الكربونية أجرى عن عامي 2023 و2024،
على أن يتم إعداد تقارير مماثلة للفعاليات الكبرى مثل حفل الافتتاح الرسمي وفترة التشغيل لعام 2025،
وكذلك سيتم تشكيل لجنة لوضع ومتابعة خطة المتحف لخفض الانبعاثات الكربونية لضمان تحقيق الاستدامة البيئية في تشغيل المتحف خلال الأعوام القادمة.
وصرح جوناثان كواتس مدير برنامج EDGE بمؤسسة التمويل الدولية IFC، بأن حصول GEM “المتحف المصرى الكبير”على شهادة EDGE Advanced
هو “إشارة واضحة إلى أن أفريقيا والشرق الأوسط قادرتان على بناء مشروعات ثقافية كبرى بمعايير عالمية للاستدامة”.
ولم تقتصر جهود المتحف على المبنى وأنظمته فقط، بل امتدت إلى البنية التحتية المحيطة به.. حيث أوضحت الدكتورة الشيماء عيد الخبيرة البيئية،
أن “هيئة المتحف حريصة على تطبيق المعايير البيئية من خلال وسائل مواصلات ذكية وخضراء مثل مترو الأنفاق وسيارات الكهرباء، فضلا عن ترشيد استهلاك المياه واستخدام الخلايا الشمسية لتوليد الكهرباء”.
وبعيدا عن كونه مشروعا معماريا أخضر، يتوقع أن يلعب المتحف دورا توعويا بارزا في ربط التراث بقضايا المناخ حيث توضح الدكتورة كريستينا هيلبيرج خبيرة التراث الثقافي
وتغير المناخ بالمجلس الدولي للمتاحف ICOM، أن “GEM “يشكل نموذجا عالميا لربط حماية التراث بالعمل المناخي، وسيكون له دور بارز في رفع وعي الزوار وربط الماضي بمستقبل مستدام”.
ومن جانبه، أكد الدكتور عباس الشراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة – في تصريح خاص للوكالة –
أن المتحف المصري الكبير يتميز بمساحته الشاسعة التي تتيح تنوعا بيئيا وجماليا فريدا، حيث تم تخصيص جزء كبير منها للمسطحات الخضراء التي تضفي طابعا حضاريا متكاملا.
وأوضح الشراقي أن هذه المساحات يمكن تعزيزها عبر التوسع في زراعة أشجار الظل لتوفير الحماية للزائرين من أشعة الشمس القوية صيفا، إلى جانب إضافة لمسات جمالية تليق بمكانة مصر كبلد النيل والحضارة الزراعية.
وأضاف أن إدارة هذه المساحات ينبغي أن تتم بطرق ري حديثة تعتمد على إعادة استخدام المياه المعالجة بما يعزز الاستدامة البيئية،
كما أن المتحف بما يملكه من مساحات مكشوفة يمكن أن يكون نموذجا في استغلال الطاقة الشمسية المتجددة،
وهو ما يسهم في تقليل الاعتماد على الشبكة العامة للكهرباء وتخفيف الأحمال، خاصة وأن طبيعة عمل المتحف تتركز في فترة النهار حيث تزداد معدلات سطوع الشمس.
وبدوره، أشاد الدكتور مصطفى الشربيني الخبير الدولي في الاستدامة وتقييم مخاطر المناخ ورئيس الكرسي العلمي للاستدامة والبصمة الكربونية في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،
بالجهود التي يبذلها المتحف المصري الكبير في مراعاة البصمة الكربونية والطاقة، معتبرا إياها خطوة رائدة تعكس وعيا بالاتجاه العالمي نحو التنمية المستدامة.
وأكد الشربيني – في تصريح للوكالة – أن هذه المبادرات تعد بداية إيجابية وضرورية، لكنها تحتاج إلى التحول من خطوات متفرقة إلى برنامج استدامة مؤسسي منظم وموثوق يقوم على الإفصاح السنوي المدقق وفق معايير دولية.
ويرى الشربيني أن إصدار تقرير استدامة سنوي للمتحف سيكون له أثر بالغ في تعزيز الشفافية مع الجمهور وأصحاب المصلحة، والالتزام بالمعايير الدولية
مثل التوجيه الأوروبي الجديد (CSRD)، إضافة إلى إدارة المخاطر المناخية والبيئية، وفتح الباب أمام فرص التمويل الأخضر والدعم الدولي،
كما أن هذا التوجه سيعزز السمعة العالمية للمتحف باعتباره مؤسسة ثقافية رائدة تواكب أفضل الممارسات في الحوكمة البيئية والاجتماعية.
وأشار الشربيني إلى أن وجود تقرير استدامة سنوي مدقق يتيح متابعة دقيقة لمؤشرات الأداء (KPIs) في مجالات الطاقة، المياه، إدارة النفايات، جودة الهواء، حماية التراث المادي، والبعد الاجتماعي للعاملين والزوار،
بما يضمن استمرارية التطوير والتحسين، كما يساعد في رصد التأثيرات البيئية المباشرة مثل الانبعاثات والضغط على الموارد، إلى جانب الآثار الاجتماعية مثل فرص العمل، حقوق العاملين، والمشاركة المجتمعية.
ويؤكد الشربيني أن المتحف المصري الكبير، باعتباره أحد أهم المتاحف الأثرية في العالم، ليس مجرد مؤسسة ثقافية، بل كيان له تأثيرات بيئية واجتماعية وحوكمية واسعة النطاق،
الأمر الذي يتطلب التزاما طويل الأمد بمعايير الاستدامة العالمية، فتبني تقارير استدامة سنوية سيعزز ثقة الشركاء الدوليين،
ويضع المتحف في موقع الريادة كنموذج عالمي يجمع بين الحفاظ على التراث الإنساني والالتزام بالمسؤولية البيئية والاجتماعية.
تهيئة البنية التحتية بلمسة بيئية مستدامة:
وفي إطار الاستعدادات لافتتاح المتحف المصري الكبير، لم تقتصر جهود محافظة الجيزة على تطوير الطرق والمداخل المؤدية إلى المتحف ومطار سفنكس الدولي،
بل ركزت أيضا على إدماج البعد البيئي في هذه المشروعات، بما يحقق مبدأ الاستدامة ويعزز جودة الحياة في المنطقة، فقد شملت الأعمال الجارية تنفيذ رصف
ورفع كفاءة الطرق للحد من انبعاثات الغبار، وتحسين شبكة الإنارة عبر حلول أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة، إلى جانب تجميل الجدران والحوائط بما يقلل من التلوث البصري.
كما أولت المحافظة اهتماما خاصا بزيادة الغطاء الأخضر من خلال زراعة الأشجار والشجيرات والمسطحات الخضراء،
وتنفيذ أعمال اللاندسكيب التي تساهم في خفض درجات الحرارة المحيطة وتقليل التأثيرات السلبية للجزر الحرارية داخل المدن.
يأتي ذلك متوافقا مع توجهات الدولة لتعزيز البنية التحتية الخضراء المحيطة بالمشروعات القومية الكبرى،
بما يجعل من المتحف المصري الكبير نموذجا عالميا يجمع بين الأصالة التاريخية والحس البيئي الحديث.
وأكد المهندس عادل النجار محافظ الجيزة، أن هذه الجهود البيئية والحضارية تمثل جزءا من استراتيجية متكاملة للارتقاء بالمنطقة المحيطة بالمتحف،
بما يضمن بيئة صحية وجاذبة للسياحة والاستثمار، ويسهم في إبراز صورة مصر كدولة تتبنى معايير التنمية المستدامة في مشروعاتها الوطنية الكبرى.
لا يقتصر المتحف المصري الكبير على عرض أعظم مقتنيات حضارة عرفها التاريخ، بل يقدم درسا معاصرا في كيفية الجمع بين الماضي والمستقبل،
إنه يثبت أن الحفاظ على التراث لا يتعارض مع حماية البيئة، وأن صرحا بحجمه يمكن أن يبنى ويدار بطريقة تقلل من البصمة الكربونية وتعزز التكيف مع التغيرات المناخية..
وبينما يتدفق الزوار من شتى أنحاء العالم لمشاهدة آثار توت عنخ آمون أو تمثال رمسيس الثاني، فإنهم سيشهدون أيضا كيف يمكن لمصر أن تقود نموذجا حضاريا في مواجهة التحدي البيئي الأكبر لعصرنا ليصبح ال” GEM”
أكثر من متحف، بل رسالة حية تؤكد أن الاستدامة ليست خيارا بل ضرورة، وأن حماية الكوكب يمكن أن تبدأ من صرح يحمي الذاكرة الإنسانية نفسها.
المتحف المصري الكبير نموذجا فريدا.. حينما تصبح العمارة سلاحا ضد تغير المناخ.
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.