المرأة الصبور والصبي اليافع
المرأة الصبور والصبي اليافع
بقلم / محمـــد الدكـــروري
المرأة الصبور والصبي اليافع
اليوم : الجمعة الموافق 6 سبتمبر 2024
الحمد لله الذي جعل حب الوطن أمرا فطريا والصلاة والسلام على من ارسله الله تعالى رسولا ونبيا وعلى آله وصحابته والتابعين لهم في كل زمان ومكان، أما بعد لقد كان الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا ويقينا، وكان معروفا بالصدق في قومه، وقد كان ذلك فيه بمثابة السجية والطبع فعرف بذلك حتى قبل البعثة، وكان لذلك يلقب بالصادق الأمين، وإشتهر بهذا وعرف به بين أقرانه وبعد البعثة المباركة كان تصديق الوحي له مدعاة لأن يطلق عليه أصحابه الصادق المصدوق، وإن الصدق من صفات المتقين فهذا الصحابي الجليل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فروي عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى يتحدث الناس بذلك.
فإرتد ناس فمن كان آمنوا به وصدقوه وسمعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا هل لك إلى صاحبك يزعم أسرى به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال أو قال ذلك؟ قالوا نعم قال لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق، لنقترب جميعا إلى زهرة من زهور هذه الحديقة لنقرأ على ورقاتها هذه القصة ففي غرفة ذات أسرة بيضاء كان يرقد على السرير الأوسط رجل في غيبوبة تامة لا يعي ما حوله من أجهزة مراقبة التنفس والنبض وأنابيب المحاليل الطبية وفي كل يوم منذ أكثر من عام ودون إنقطاع كانت تزور ذلك الرجل زوجته ومعها صبي لهما في الرابعة عشر من عمره ينظران إليه في حنان وشفقة.
ويغيران ملابسه ويتفقدان أحواله ويسألان الأطباء عنه ولا جديد في الأمر، فالحالة كما هي لا تقدم ولا تأخر في صحته، غيبوبة تامة وأمل مفقود من شفائه إلا من الله تعالى، غير أن هذه المرأة الصبور والصبي اليافع كانا لا يتركانه حتى يرفعا أكف الضراعة إلى الله سبحانه فيدعوا له بالشفاء والعافية، ويغادران المستشفى ليعودا مرة أخرى للزيارة في نفس اليوم وهكذا كل يوم بلا إنقطاع أو سآمة أو ملل، فهي قلوب إجتمعت على الحب وتآلفت على الصدق وأزهرت في الشدائد أجمل ورود الصبر والحنان والرأفة، ويظل المرضى وهيئة التمريض والأطباء في إستغراب تام من زيارة المرأة والصبي لهذا الرجل شبه الميّت مع أنه لا جديد في حياة المريض، فيا لله العجب ما هذا الإصرار العجيب على تكرار الزيارة مرتين في اليوم مع أن المريض المسجى لا يعي أي شيء حوله.
صارحها الأطباء وأعوانهم بعدم جدوى زيارتها له وشفقا عليها وعلى إبنها دعوها للزيارة مرة في الأسبوع وكانت المرأة الشفوق لا ترد إلا بكلمة الله المستعان، الله المستعان، وذات يوم وقبل زيارة الزوجة والصبي في وقت قصير حدث أمر غريب، وحادث مثير، إنه الرجل المصاب يتحرك في سريره، يتقلب من جنب إلى جنب وما هي إلا لحظات وإذا بالرجل يفتح عينيه ويبعد جهاز الأكسجين عن نفسه ويعتدل في جلسته ثم ينادي الممرضة وسط ذهول الحضور وطلب منها إبعاد الأجهزة الطبية المساعدة، فرفضت وإستدعت الطبيب الذي كان في حالة ذهول تام وأجرى فحوصات سريعة له فوجد الرجل في منتهى الصحة والعافية، وطلب إبعاد الأجهزة وتنظيف مكانها في جسده، وكان موعد الزيارة المعهودة من تلك الزوجة المخلصة قد حان وقته.
فدخلت المرأة والصبي على حبيبهما، فبأي وصف تريدني أن أصف تلك اللحظات الحنونة وبأي الكلمات تريدني أن أصوغها لك فإنها نظرات تعانق نظرات ودموع تمتزج بدموع وابتسامات حائرات على الشفاه، فأخرست المشاعر الألسنة إلا بالحمد والثناء لله الكريم المنعم المتفضل، المجيب الذي أتم نعمة العافية على زوجها، فإن الطبيب لم يحتمل الصبر حتى يكتشفه فتوجه للزوجة بسؤالها قائلا هل توقعت أن تجديه يوما ما بهذه الحالة ؟ فقالت نعم والله، كنت أتوقع أن أدخل عليه يوما وأجده جالسا بانتظارنا، فقال لها إن هناك شيئا ما حصل ليس للمستشفى أو الأطباء دور فيه فبالله عليك أخبريني لماذا تأتين يوميا مرتين وماذا تفعلين ؟ قالت بما أنك سألتني بالله فأقول لك كنت أزور زوجي الزيارة الأولى للإطمئنان عليه والدعاء له.
ثم أذهب أنا وابني للفقراء والمساكين ونقدم لهم الصدقات بغية التقرب إلى الله تعالي لشفائه، فلم يخيب الله تعالي رجاءها ودعاءها فخرجت في آخر زيارة وزوجها معها إلى البيت الذي طال إنتظاره لعودة صاحبه إليه، لتعود البسمة والفرحة له وإلى أفراد أسرته، فما أينع هذا الثمر وما ألذ مذاقه، فيقول الله تعالي ” الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”
المرأة الصبور والصبي اليافع
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.