حين يكون اللطف موقفًا لا ضعفًا

لم أجد أجمل منهم؛ الطيبين، الذين يَسْلِتون خيطًا رفيعًا من اللطف وسط عواقد القسوة و يَسحبون به قلوب المَوْحوشين. القابضين على حفنةٍ من اللين وسط صحاري الحرمان و ضواري الخذلان، و لو جفَّ منها شيءٌ؛ لعوَّضوه بدموعٍ من العزاء أو أنداءٍ مِن الدعاء.
المُحبين لأنفسهم حقّ الحب؛ فيترقرقُ عطاؤهم مِن ينابيع الاكتفاء؛ لا من مآقي الاحتياج. الذين لا يخلطون لُطفَهم بقبولٍ لإهانة، و لا قُربَهم بعُدُولٍ عن سلامة.
الثابتين على الحب، و لو اِعوَجَّ الدّرب. يعرفهم البصيرُ دون تعرُّف، و يحسبهم الجاهلُ أغبياءَ مِن التلطُّف.
يمضون في الحياة بخفّة مَن عرف قدره، فلا يُثقلون خطاهم بتبرير طيبتهم، ولا يُلوّحون بفضائلهم طلبًا لتصديق. يُحسنون الظن لا سذاجةً، بل اختيارًا؛ لأن قلوبهم تعلّمت أن السلام الداخلي أثمن من صخب الانتصار.
لا يُخاصمون قسوة العالم بقسوةٍ مثلها، بل يُربكونها بلينٍ ثابت، ويقفون على حدودهم بوعيٍ لا يَصخَب ولا يَنهار.
يعرفون متى يُمسكون، ومتى يُفلتون، فلا يُفرغون أرواحهم في أوعية مثقوبة، ولا يمدّون أيديهم لمن اعتاد الكسر. إن اقتربوا، اقتربوا بكرامة، وإن ابتعدوا، فعلوا ذلك بلا ضجيج؛ لأنهم لا يحتاجون إلى إثبات الخسارة لمن لم يُحسن الحفظ.
هم ليسوا ملائكة، ولا يدّعون النقاء، لكنهم صادقون مع ضعفهم، رحماء مع أخطائهم، فينضج فيهم اللطف بدل أن يَتآكل. يخطئون، يتألمون، ثم يعودون إلى أنفسهم أولًا، فيرممونها قبل أن يعرضوا الدفء على غيرهم.
أولئك هم الذين إذا أحبّوا أراحوا، وإذا حضروا خفّفوا، وإذا غابوا تركوا أثرًا من طمأنينة. لا يعلو صوتهم في الزحام، لكن أرواحهم تُرى من بعيد؛ لأن النور لا يحتاج إلى ضجيج… يكفيه أن يكون صادقًا.
حين يكون اللطف موقفًا لا ضعفًا
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
