قصائد شعرية وأدب

ذكــــرى الأجــــداد•.•• قصة قصيرة بقلم: رابــــحة بوكايــس

 

…ﺗﻮﻗﻔﺖ سيارة سوداء ﺍﻟﻠّﻮﻥ من الطراز الحديث الفاخر، لينزل منها رجل معتدل القامة وسيم الوجه مبتسم الملامح يرتدي بدلة رسمية كلون سيارته، وفي لحظة إغلاقه للباب امتدت في الجهة المقابلة له يد سيدة دفعت الباب الذي يقربها وهي تهم بالنزول، وقد لمع اسوارها الذهبي تحت أشعة شمس هذا الصباح الربيعي المشرق، لتغلق الباب بيد و في يدها الأخرى حقيبة صغيرة .. ومع أول خطوة همت بتعديل خمارها مراقبة أناقتها …استدار الرجل خلفه وكأنه يقول لها بنظراته المبتسمة ( هيا أسرعي.. )…دنت منه ليسيرا سويا على خطى متعادلة، ليقفا قرب باب صدئ متآكل الطلاء بالكاد يُرَى لونه الأصلي، قد حفته جدران من الطوب نادرة المنظر وسط قرية جل مبانيها قد تغيرت للطراز الحديث، وجه بصره نحوها وهو يهمس بصوت بالكاد يسمع ( هذا هو البيت الذي أوجعت رأسك بذكرياتي فيه ) …قالها وقد ارتسمت ابتسامة تحمل سرًا على محياه وهو يفتش عن المفتاح في جيبه، تأملته بابتسامة صامتة تخفي استفسارا عظيما أمهلته لبعد حين، فتح الباب ليدخل برجله اليمنى وهو يردد باسم الله فلحقته هي الأخرى ومرددة بصوت يكاد يسمع ( بسم الله الرحمن الرحيم… ما شاء الله اللهم بارك …تماما كما وصفته لي )، كان كل شيء في مكانه حتى غطاء البئر فمنذ فترة من آخر زيارته تركه على حاله ليجده كما كان…سارا خطوات وقد استقبلتهما شجرة العنب تعانق الداخل بوريقاتها الخضراء الصغيرة النابضة حياة قد تفتحت حديثا في نهاية فصل الربيع مستقبلة الصيف بحرارته…كان كل شيء جميل…فقط هناك لمسة الغبار الزائد لا غير …

توجه بنظراته لها وهو يخبرها قائلا ( هنا كانت جدتي رحمها الله تطهو الخبز…وهنا كان جدي رحمه الله يسمع المذياع …هناك كانت أمي تنشر الغسيل وكان أبي يخرج الماء من البئر … وكنت أنا واخوتي نلهو هنا تحت شجرة البرقوق …كانت في هذا المكان لكن لم يعد لها أثر… فقدت جداي رحمهما الله وبقيت لمساتهما الرائعة في كل مكان…تعالي اقتربي..)… قالها وهو يمسك بيدها لغرفة تتوسط حوش البيت …كان سقفها من القرميد الأحمر بجدران ذات الطلاء الأصفر دفع الباب الخشبي الأخضر لينفتح …كانت الغرفة بأثاث تقليدي من الطراز الأول وخزانة ليس لها شبيه …قال لها ( هذه غرفة جداي رحمها الله …كانت جدتي تحب شرب الشاي بالشيبة في عز الشتاء وقربها موقد من الطين تجمعت بداخله حبات الجمر المشتعلة ترتفع حمرة وتخمد في رمادها وقد نطت قربه قطة صغيرة لا أدري من أين كانت تأتي والذي أذكره أنني كنت أكرهها وأركض خلفها أينما كانت…والذي ينسيني أمرها حبي لممارسة حرق خيوط الحلفاء بعد أن استلت من قبلي بمهارة من طبق الخبز فلقد كنت أستمتع بألسنة النار وهي تلتهمها بمهل…وكنت كثيرا ما أحب اللهو بالعجين في الإجازات المدرسية …كانت دنياي بسيطة وسعادتي أعظم وأنا أمدد العجين على مائدة ثلاثية الأرجل أقترب منها وأنا جالس على جلد الخروف الصوفي مبتسما وأنا أصنع مجسمات الذئب و سلة الفواكه ولم أكن أحسن صنع ليلى ..الذي كان يأسرني اختلاس نظراتي لقطرات المطر النازلة من قرميد الغرفة … وفي الغرفة الأخرى…) …توقف عن الحديث حين لاحظ زوجته قد شردت وقد اقتربت من خزانة موضوعة على الجهة اليمنى للغرفة قرب الباب…ابتسمت وقد وجهت بصرها نحوه حين لاحظت صمته قائلة له ( رائعة هذه الخزانة ونادرة الشكل ) … ابتسم وقال لها حسبك …سترين أمورا عظيمة بداخلها مفقودة الصنع في هذا الزمان … أغمضي عينيك فقط، بالفعل فعلت ذلك وهي تبتسم وتقول ( حسنا لن أفتحهما حتى تنبهني أنت بذلك )، ابتسم وقال بعد أن تأكد من تنفيذها لطلبه ( 1…2…3…هيا افتحي)، فتحت عينيها فإذ بمصباح رائع قرب مزهرية من الطين القديم بزخرفتها الجذابة…ليردف قائلا ( والآن كيف ترين المفاجأة؟ ثم إن هذه واحدة فقط ففي داخل هذه الخزانة العديد من الأمور القديمة والثمينة، كما في الغرفة الأخرى وكذا المطبخ..) …لم تجبه بل اقتربت أكثر في هدوء وقد اغرورقت عيناها بالدموع في صمت ويداها تلامس المصباح، وقد وزعت نظراتها بين زوجها وبما تراه قربها، ليقطع زوجها هذا الصمت قائلا لها ( ها !! لم أسمع رأيك … كيف وجدت المفاجأة؟ )، مسحت عينيها بجنبات خمارها وقالت له ( رأيت مثله حين كنت طفلة في زيارة جداي رحمهما الله… كان في الأحمر وكانت جدتي رحمها الله ترفعه عنا حتى لا نلهو به نحن الصغار …وهو الآن عند أبي …ولكن ..) قاطعها زوجها قائلا ( ولكن ماذا؟) ردت عليه قائلة ( ولكن لم تركتموه هنا ؟ ) …ابتسم في وجهها قائلا ( نحن نحب الأمور على سجيتها ونريدها كما كانت من منبعها، وكما رأيتها قديما هي كذلك، ثم لم سؤالك هذا؟ أظنك تفكرين في الاستلاء عليه- قالها وهو يضحك ويده تحمل المصباح- هذا لك هدية من جداي رحمهما الله لزوجة حفيدهما المدلل الصغير) … وأردف قائلا ( لا تقلقي من شأن البقية خاصة أبي فبيتي بيته ولا داعي أن أسترسل في هذا الموضوع يا زوجتي العزيزة)…( سأحتفظ به ما عشت ) قالت ذلك وهي تحتضن المصباح ونظراتها تجوب المكان في تفحص، لتضع المصباح جانبا وهي تنزع الجوال من الحقيبة ثم همت بنزع حجابها أيضا لتقدمه له قائلة ( تفضل أمسكه وضعه في السيارة وخد أيضا هذه الحقيبة واختفي من قربي الآن)…ابتسم لها وقال ( هو تعنيف طيب وطرد لائق …لكن ماذا تنوين فعله؟) لم تلتفت إليه وهي ترد عليه ( لا يهمك أمري الآن هيا أخرج فقط …وحسبك أن ترجع حتى أرن لك غير ذلك فلن أفتح الباب أبدا)، ابتسم قائلا ( نسيت أيتها العبقرية أنني أملك مفتاحا)…رفعت سبابة يدها نحوه وقالت له ( إن حاولت الرجوع قبل أن أعلمك، فسترى ما سيكون مني وقتها )…انفجر ضاحكا وهو يمسك حجابها وحقيبتها قائلا ( حسنا أظن أن زوجتي تحولت إلى ثور الملاعب الاسبانية….لا بأس سأهرب قبل أن تحل علي اللعنة)…

وقفت في مكانها مبتسمة تترقب سماع صوت الباب وهو يغلق، بعد تأكدها من ذلك قامت بتثبيت جوالها على سورة الفتح بصوت الشيخ ماهر المعقلي…كان ترتيله يخترق هدوء البيت ..فلقد أرادت أن تسمع نبضات الحياة فيه كما كان…تأملت المكان في تفحص يمينا وشمالا … خطوات قرب البئر رأت دلوا لازال يستعمل وفي حالة جيدة وأدوات التنظيف.. كان والد زوجها يأتي رفقة البقية مرة على مرة …ولكن منذ جائحة كوفيد 19- والتي حصدت ما حصدته من الأرواح- لم يزر المكان أحد لأن هذا البيت في قرية بني بوسعيد غير مدينة مغنية …

تنهدت من أعماقها وقد رُسِمت على محياها الجميل ابتسامة بفوزها واتمام مرادها بهذه الأدوات التنظيفية وهي تحتضنها… لتدور حول نفسها بعد أن تأملت البئر …همست تحدث نفسها بلطف قائلة ( والآن حتما توجد حنفية في المنزل إن كان هنا البئر … فأين أنت أيتها المشاكسة) قالتها وهي تداعب نفسها بهذه المزحة وكأنها تترقب بين هذا الصمت أن تنطق وتخبرها من بعيد قائلة لها.. أنا هنا … وفي لهو طفولي للعبة الغميضة وجدتها …لم تكن تريد حنفية المطبخ بل حنفية أخرى بديلة تساعدها لتضع الدلو تحتها …

فتحت الحنفية ليتدفق ماء زلل عذب لمع مع نظراتها الطاهرة الطيبة ..ملأت الدلو وهمت بوضعه على الأرض لتسبق خصلات شعرها الأسود يدها وقد غطت وجهها بالكامل، رفع رأسها وقامت بسحبها وهي تمشطه بأصابعها ثم همت بشده بإحكام لكن بمجرد أن عادت لحمل الدلو عاد وقد أخفى وجهها…نظرت يمينا وشمالا وكأنها تبحث عن شيء …غابت لدقائق وهي تفتش بين الأغراض وابتسمت أخيرا حين وجدت قلم الرصاص…( يفي هذا بالغرض) قالتها مبتسمة….وهي تهم بجمع شعرها مجددا ثم شدته على شكل دائري وقامت بوضع قلم الرصاص في نهايته…ثم شدت ثوبها من على جنباته بخيط وجدته في المطبخ حتى يسهل عليها التحرك والمشي بدون أن تبلل ثوبها المسترسل من على ركبتيها، ثم همت بمسح الغبار على كل شيء في المنزل وهي تبتسم وترتل مع الشيخ المعقلي في سعادة وقد رأت ذلك البريق الذي قد كان مختفي وراء ذرات الغبار…بعدها أخذت دلو الماء وسكبته ثم قامت بتنظيف الأرضية…وها هي إلا سويعات قليلة حتى عادت نسمة الحياة من جديد لهذا المنزل… لتهب نسمة طيبة داعبت خصلة شعرها الأسود وقد تراقصت على خديها كأنها تود أن تمسح هي الأخرى الغبار الذي كسح وجنتيها حين كانت تسرع الخطى في التنظيف، جلست على كرسي خشبي صغير تتأمل جمال أطباق الحلفاء التي كانت تصنعها جدة زوجها رحمها الله وذلك الحصير الرائع وكذا زربية الصوف المزركشة في الأحمر المطوية وهي تسترجع أنفاسها من التعب، بعدها سحبت الجوال وعلى قائمة الاتصال رنت على رقم يحمل اسم ( زوجي)، كان هو في هذه اللحظة يتصفح الفايسبوك من على جواله وقد وصله تعليق صديقه على منشوره الأخير (الدنيا نعم وأعظم النعم الزوجة الصالحة فلله الحمد) …ومع أول حرف له في الرد على تعليق صديقه وصله الرنين… ابتسم وقال بصوت مسموع يحدث نفسه ( أي كارثة جميلة فعلتها مجنونتي الطيبة هذه المرة فأنا أعرفها جيدا )…فتح الخط قائلا ( نعم … هل رفع حظر التجول؟…) قالها وهو يضحك بصوت مسموع… ردت عليه ( يمكنك الآن العودة إلى العرين أيها الأسد) …وبالكاد أتمت حديثها ليضع جواله في جيبه وقد سحب الأكياس التي كانت بالقرب منه على المقعد الأمامي للسيارة، فتح الباب الخارجي للمنزل لينبهر من عظمة التنظيف والترتيب الرائع لزوجته… وكأن المكان مختلف عما كان أولا، وضع الأكياس جانبا ليرفع يديه وبعد أن جمعهما صفق تصفيقا غير منقطع وهو يقول ( ما شاء الله عليك والعلامة 20/20 رائع)… ليلتفت إليها وهي بملابس قد اتسخت غبارا وشعرها قد تبعثر في السماء وبعضه على الجبين والخد فقال لها ( المكان جميل ورائع – قالها وهو يبتسم- ولكن زوجتي أجمل)، فهمت قصده وأنّ منظرها غير الذي قال، ابتسمت وهي متوجة لحيث مكان الحنفية، بللت يدها وأخذت تنفض ثوبها بقطرات الماء بغية إزالة الغبار الملتصق، ثم قامت بغسل وجهها ومشطت شعرها بيديها بعد أن سحبت منه قلم الرصاص الذي كان يشده، لترجع حيث الأكياس الموضوعة على الأرض…وهي تقول له ( لو كان في مسح الأرضية وترتيب المكان إرجاع الأجداد رحمهم الله لفعلت أكثر وزيادة- لتحمل الأكياس وهي تقول له- ماذا في هذه الأكياس؟)… تقدم نحوها وحملها عنها مازجا (اتبعيني نريد أن نأكل لمجتنا قرب البئر فالمكان منشرح هناك وفي قمة الروعة، ثم إنه يذكرني بطفولتي حين كانت جدتي رحمها الله تعطيني لمجة البيض المسلوق فأرتكن قرب البئر حيث أشعة الشمس الوافرة فألتهمها بهدوء وأنا أراقب الصيصان تتسابق لوجبة النخالة التي كانت تبللها جدتي رحمها الله بالماء لتبعثرها بعد ذلك قرب شجرة العنب هناك… وقتها كانت العناقيد الصغيرة تستقبل الحياة بفرح مثلي تماما، ثم إنني أتحدث كثيرا وعصافير بطني تعبت من الزقزقة- قالها وقد ضحك من أعماقه-) …همت بفتح الأكياس مبتسمة وهي تفرش الأرض ثم همت بتقسيم ما احتوى بداخلها بينه وبينها ولسانها رطبا بالحديث والتساؤل عن سر حياة هذه الشجرة المظلة منذ ذلك الزمان لحيث هذا الزمان، ليخبرها أن والده قد غرسها في طفولته وكان يسقيها مرة على مرة وبعدها أخذ الأمور هو، وأن ثمار العنب وافرة – قالها وهو يسألها عن أمر مهم – …. (ماذا لو استدعينا المرة المقبلة بإذن الله أبويك وكذلك أبواي وسأقوم بشراء العديد من الأشياء أنت من سيطبخها لنا هنا في هذا المنزل …أريد أن تنبعث رائحة الطعام فيه ويعم الضجيج والحديث والضحك لنعيد ذكريات الماضي الجميل بإذن الله، وحتما سيستمتع أبوك بحديث أبي لأنهما من أبناء المنطقة والقبيلة الواحدة، ثم إن أمك كانت جارة لأمي في طفولتهما يعني الجميع يعرف بعضهم البعض، أما أنا فأفكر في إعادة ترميم هذا المنزل وإعادة الطلاء أيضا، وسيكون المنزل بإذن الله قبلة الجميع نقضي فيه أطيب أيام العطل بإذن الله، ابتسمت وقد رفعت اللقمة إلى فمها وهي تقول (اتفقنا يا ذكي لكن لم نتفق على انعقاد التناوب في تنظيف المنزل مرة أنا ومرة السيد زوجي والكثير ما يكون هو لنرى عبثية المياه التي سيتركها خلفه) … انفجر ضاحك من قولها والذي لم يكن ينتظره ( مهلا …مهلا …لم أتفق معك بعد ) فارتفعت ضحكاتهما معا وقد واصلا الأكل في سعادة.

***انتهـــت.***


اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة