قصائد شعرية وأدب

عمي”مصطفى”

عمي"مصطفى"

عمي”مصطفى”

قصه/ لإبراهيم طاهر

قص العم علينا كثيرا من بطولات أبي الذي لم أره، تزاملا في الجيش، عبرا القناة، حررا سيناء، عاد الرجل ولم يعد أبي. يزورنا كل جمعة، نجلس أمام الدار، يحكي ولا يتوقف عن تضحيته بنفسه لإنقاذ الكتيبة حتى لحظة استشهاده، واصل الحكي رغم تأفف أخي الذي كان يعلم أنه تقدم للزواج من أمنا قبل زواجها من أبينا.

حكت الجدة – رغم ذلك – أنها كانت تحبه لكن الجد أصر على زواجها من ابن عمها، كتمت مشاعرها وانصاعت.
تنهي العجوز القصة بنظرة صوب الفضاء، كأنما تتطلع إلى أشباح تتحرك حولنا.

ذات ليلة باردة دخلتُ دارنا لإحضار الحطب، شاهدت أمي تقف خلف نافذتنا الصغيرة تستمع لحكاياته، التفتت نحوي فسألتها عن سبب بكائها، قالت: وحشني جدا.
قلت: أبي؟
ردت بعد صمت ظننته لن ينتهي: آه.
بعدها ظلت تردد “آه” كثيرا، لكنها كانت من نوع آخر.

رحلت أمي، سافر أخي، وبقيت أنا وهو، ظل يكرر الحكايات، وظللت اتصنّع الانبهار، يسعده ذلك؛ فيعصرني عصرا ويداعب أذني: عارف لو كنت اتجوزت وجبت الواد مكنتش هاحبه قدك.

بمرور الأيام اختلفت نبرة صوته، ارتعشت حروفه، شاخ فجأة، كان عليّ أن أزوره يوميا لأذكره بمواعيد الدواء، بالطعام، ثم بنفسي.
وجدتني أعيد عليه قصصه، وكيف كان يحمي أبي في الميدان، لما سألني عنه، قلت: مات.
ظل متجهما يتطلع إليّ، بكى حتى نام.

كل يوم يعيد الأسئلة، أكرر الأجوبة، هكذا كان يفعل عندما كنت أطالبه بإعادة القصص دونما ملل.
يوما بعد يوم تتراجع حالته الصحية، بالأمس ناداني باسم أبي، نعتني بالندل الخسيس، لم أتفوه بحرف، استطرد: يا كلب يابن الجاموسة مش كنت عارف إنها بتحبني.
أمعن النظر في وجهي قائلا: “أنت مين؟”.

خرجت منهارا، ليت الجدة على قيد الحياة، أتخاريف هي؟ أم هذه هي الحقيقة؟
عدت، جلست إلى جواره حتى الصباح، فتح عينا واحدة بصعوبة، عندما رآني تمتم: “كان لازم تموت، كلنا طلعنا من الخندق ندافع عن الموقع، إلا الجبان… أنت”
عارف؟ مزعلتش عليك، كل حزني عشان ابنك، اللي لسه جاي الدنيا من شهور”.
راح بعدها ينادي أمي لأول مرة باسمها، يناديها ويبكي، حتى فاضت روحه.
صرخت بكل قوة: لا، متسبنيش يا عم … متسبنيش يا… أبويا، أبويا”.

من مجموعة “تحت خط الرحمة”
دار واو للنشر والتوزيع.

#نرجسيةهيما.


اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة