
غفلة
بقلم / عبدالحميد أحمد حمودة
كان النهار ينساب ببطء على المدينة، شمس خجولة تتوارى خلف غيوم متفرقة، وضجيج الشوارع يتسرب إلى زوايا المقهى حيث جلس بطل قصتنا. كان يلوذ بمقعد خشبي عتيق في ركن قريب من النافذة، يحتضن فنجان قهوته الساخنة كأنما يخبئ فيه بعض الدفء والسكينة.
لم يكن غريبًا على هذا المقهى، فقد اعتاد أن يجلس فيه متأملًا الحياة المزدحمة خارجه، مستمعًا إلى موسيقى خافتة تصدر من جهاز قديم، فيترك لعينيه حرية الترحال بين الوجوه العابرة.
وفي تلك اللحظة، توقفت عيناه فجأة عند ملامح لم يرَ مثلها من قبل: فتاة تجلس على أريكة مقابلة. كانت تضع كتابًا مفتوحًا أمامها، لكن عينيها لم تكونا غارقتين في السطور، بل كانتا تسرحان في فضاء المقهى حتى استقرتا عنده.
https://masaaraby.com/?p=364738&preview=true
جمدته تلك النظرة. لم تكن مجرد التفاتة عابرة، بل كانت أشبه بتيار كهربائي اخترق الصمت بينهما. شعر وكأن كل ما حوله قد تلاشى: ضجيج الشارع، ضحكات الرواد، حتى صوت دقات عقارب الساعة. لم يبقَ في العالم سوى عينيه وعينيها.
مضت دقائق، أو ربما ساعات، لا يدري. لكنهما تبادلا خلال تلك اللحظات محادثة كاملة بلغة العيون، دون أن ينطق أي منهما بحرف. كان يسألها بعينيه: “من أنتِ؟”، فتجيبه بنظرة خجولة: “أنا التي طالما بحثت عنها في أحلامك”.
تردد في أن ينهض ويقترب منها، غير أن شيئًا غامضًا كبّله في مكانه، ربما رهبة اللقاء الأول، أو خوف من أن يكتشف أن ما يعيشه مجرد وهم. فاكتفى بالاستسلام لتلك اللحظة السحرية.
وحين نهضت هي فجأة، كأنها نسمة هبت ثم غادرت، شعر وكأنه يُنتزع من حلم جميل قبل اكتماله. تابعها بعينيه وهي تتجه نحو الباب، تختفي بين الأزقة الضيقة للمدينة. تركته في فراغ لم يعرف مثله من قبل.
بقي مكانه لدقائق مشلول الفكر. ثم تسلل الندم إلى قلبه: لماذا لم يتحرك؟ لماذا لم يخطُ خطوة واحدة نحوها؟ كانت الفرصة أمامه، ولم يفعل شيئًا سوى التحديق.
منذ ذلك اليوم، صار المقهى بالنسبة له معبدًا. عاد إليه كل صباح وكل مساء، يجلس على ذات المقعد، يطلب ذات الفنجان، وينتظر. كان ينتظرها كما ينتظر الظمآن قطرة ماء في صحراء ممتدة.
ومرت الأيام، تتابعت الفصول، وتبدلت ألوان السماء. أزهرت الشوارع في ربيع، ثم ذبلت في خريف، ثم تجمدت في شتاء قارس. أما هو، فبقي ثابتًا على كرسيه، يرقب الباب منتظرًا عودة الحلم.
بدأت ملامحها تطارده في كل مكان. في الطريق، كان يظن أنه يلمحها بين الوجوه العابرة. في المكتب، يتشتت ذهنه كلما رنّ هاتف أو تحرك ظل على النافذة. حتى في أحلامه، كان يجدها تجلس على ذات الأريكة في المقهى، تبتسم له ثم تختفي قبل أن يمد يده إليها.
حاول أن يقنع نفسه بالنسيان. سافر إلى مدن أخرى، غيّر أماكن جلوسه، تعرّف إلى أشخاص جدد. لكن صورتها كانت تعود دائمًا، كطيفٍ يطارده مهما ابتعد. كان كمن يسير في صحراء شاسعة، كلما لاحت له واحةٌ هرع إليها، فإذا هي سراب يتلاشى.
ذات مساء، جلس يحدث نفسه بصوت مسموع، والشارع من حوله يبتلع خطاه:
– “أمعقول أن تكون مجرد صدفة؟ أمعقول أن تظل لحظة واحدة تسيطر على حياتي كلها؟”
لكن داخله كان يجيب: “إنها لم تكن مجرد فتاة، بل كانت المعنى الذي بحثت عنه طويلًا”.
مرّت سنة تلو أخرى. رأى العالم يتغير من حوله: مقاعد المقهى تجددت، وجوه العاملين تبدلت، حتى أصحاب الأصوات التي كانت تؤنسه اختفوا، لكنه بقي كما هو. كأن الزمن تجمد عند تلك اللحظة التي غادرت فيها.
كان أصدقاؤه يَلومونه:
– “إلى متى ستعيش أسير وهم؟”
– “الحياة لا تنتظر أحدًا، تحرك!”
لكنه كان يبتسم ابتسامة باهتة ويرد:
– “أنتم لا تفهمون… لم تروا ما رأيت”.
لم يكن يستطيع أن يصف لهم ما حدث، لأن الأمر لم يكن كلمات ولا أحداث، بل كان شعورًا يتجاوز المنطق. شعور جعل قلبه يتيقن أنه التقى نصفه الآخر.
وفي صباح بدا عاديًا ككل صباح، جلس في مكانه المعتاد بالمقهى. رفع عينيه نحو الباب، ولم يصدق نفسه: إنها هي!
لكن هذه المرة لم تكن وحيدة. دخلت ممسكة بيد رجل يسبقها بخطوات، وخلفهما طفلان صغيران يركضان بمرح. جلست على الطاولة القريبة، تبتسم لهم وتساعدهم على الجلوس.
أما هو، فظل مشدوهًا، يتأملها من بعيد. لم تره، أو ربما لم تنتبه. كان قلبه يصرخ، لكن لسانه صامت. حاول أن يرفع يده ليشير إليها، أن يناديها باسم لم يعرفه يومًا… لكنه عجز.
حين غادروا المقهى، تبعهم ببصره حتى اختفوا. عندها التفت إلى مرآة معلّقة على الحائط، فصُدم بما رأى: رجل شاحب، عيناه غائرتان، تجاعيد الزمن حفرت طريقها على وجهه. أدرك فجأة أن سنوات طويلة قد انقضت وهو جالس في انتظاره العقيم.
قال في نفسه بمرارة:
– “لقد كنت غافلًا… غافلًا عن الحياة، عن نفسي، عن كل شيء. انتظرت ما لم يعد من حقي، وأضعت ما كان في متناولي يومًا”.
خرج من المقهى بخطوات متثاقلة. كان يشعر أنه يشيّع جنازة أحلامه، وأن قلبه يودّع وهمًا طال أسره. لكن داخله صوت خافت يقول: “ما زال هناك وقت لتعيش… فقط لو تستيقظ حقًا”.
في تلك الليلة، لم يذق للنوم طعمًا. كان يتمدد على سريره، عيناه شاخصتان إلى سقف الغرفة، والأفكار تتناوب على رأسه كأسراب غربان.
– “كيف سمحت لنفسي أن أعيش أسير حلم؟”
– “ألم يكن بوسعي أن أمد يدي إليها يوم كانت وحدها؟”
– “أي غفلةٍ تلك التي جعلتني أضيع أجمل سنوات عمري؟”
أخذ يسترجع تفاصيل الأيام التي مضت: كم من فرصة للعمل أهملها، كم من علاقة صادقة تجاهلها، كم من صداقات قطعها لأنه كان غارقًا في وهم الانتظار. كان يعيش في مدينة مزدحمة بالحياة، لكنه كان يسكن صحراءً داخلية لا يرويها شيء.
في الصباح، وقف أمام المرآة من جديد، لكن هذه المرة أطال النظر. لمس تجاعيد وجهه، لاحظ شعيرات بيضاء غزت رأسه. همس لنفسه:
– “ما زال هناك وقت… لن أترك ما تبقى يضيع كما ضاع الماضي”.
بدأ يحاول استعادة ذاته. عاد للكتابة بعد انقطاع طويل، فملأ دفاتره بسطور تعكس وجعه وأحلامه. انضم إلى نادٍ ثقافي، التقى بأشخاص يشاركونه شغفه. راح يسافر إلى مدن لم يزرها من قبل، يدوّن مشاهداته، يحاور غرباء صار بعضهم أصدقاء.
كان يشعر أن الحياة تمنحه فرصة ثانية، لكن قلبه كان ما يزال مثقلًا بذلك الوجه الذي لم يبرح ذاكرته.
بعد أشهر، وبينما كان يسير في شارع قديم على أطراف المدينة، لمحها من بعيد. كانت وحدها هذه المرة، تمشي بخطوات متأنية، تحمل حقيبة صغيرة على كتفها. تجمد مكانه، وكأن الزمن عاد به إلى الوراء.
تردّد: هل يقترب؟ هل يكسر الصمت أخيرًا؟
اقترب بخطوات بطيئة، لكن حين كاد أن يناديها، رآها تدخل إلى بيتٍ صغير، وتغلق الباب خلفها. وقف طويلًا أمام الباب المغلق، ثم ابتسم ابتسامة حزينة، وهمس:
– “لن أطرق. لم يعد هذا قدري… لقد فات الأوان”.
عاد أدراجه، يمشي والريح تعصف بوجهه. كان يشعر بخفة غريبة، كأنما تخلص من ثِقل حمله سنوات. جلس على مقعد خشبي في ساحة عامة، وأخرج دفتره، وكتب:
“الغفلة ليست أن لا ترى، بل أن ترى ولا تتحرك. ليست أن يمرّ العمر دون أن تحلم، بل أن تعيش أسير حلم لا تملك شجاعته. لقد انتظرت ما لم يعد لي، وأهملت ما كان في يدي. واليوم… أتعلم أن الحياة لا تنتظر الغافلين.”
أغلق دفتره، ورفع عينيه نحو السماء. كانت الغيوم تتفرق، وشعاع شمس يتسلل خجولًا ليضيء وجهه. أحسّ بحرارة الدفء تعانق قلبه، فابتسم.
لم يعد يهتم إن كان سيراه أحد أو يقرأ أحد كلماته. كان يكفيه أنه أخيرًا استيقظ. استيقظ من غفلةٍ امتدت لسنوات، وقرر أن يعيش ما تبقى بوعي كامل.
جميع الحقوق محفوظة © الكاتب/عبدالحميد أحمد حمودة
يُمنع النقل أو الاقتباس إلا بذكر الاسم والمصدر .
https://www.facebook.com/groups/2004366466535948/?ref=share&mibextid=NSMWBT
غفلة
بقلم / عبدالحميد أحمد حمودة
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.