مقالات ووجهات نظر

في رُكنٍ ما في أذهاننا، يجلس ذلك القاضي

بقلم : بسنت صلاح عباس

في رُكنٍ ما في أذهاننا، يجلس ذلك القاضي

في رُكنٍ ما في أذهاننا، يجلس ذلك القاضي

في رُكنٍ ما في أذهاننا، يجلس ذلك القاضي.. يُشاهدنا، يُراقبُ أفعالنا، يدرِسُ تأثيرنا على الآخرين، يُتابعُ نجاحاتنا، و اخفاقاتنا.. و بعد ذلك، فِي نهاية المطاف، يُصدِرُ حُكمًا علينا.

و على أساس هذا الحكم، يتشكَّلُ إحساسُنا الكاملُ بأنفسنا، و يتحدَّدُ فينا قدر ثِقتنا، و حُبِّنا لذواتنا.. و مِن ثمَّ، يتردد فينا صوتٌ قوي ليخبرنا مَا إذا كُنا كائناتٍ جديرةً بالوجود، و الاهتمام، أو أننا لسنا كذلك حقًا.. ذلك الصوت الداخلي هو صوت تقديرنا لأنفسنا.

بعضه إيجابيٌ حميدٌ، يَدعمُنا، و يحُثُّنا على استكمال الخطوات القليلة الباقية و أكثره انهزاميٌ و عقابيٌ، يملؤنا ذُعرًا و لا يعكس حقيقتنا مقارنةً بأفضل أفكارنا، أو أعظم قدراتنا.

عقولنا ما هِي إلا مساحات كهفية سحيقة، نَشَأَت فيها أصواتنا الداخلية منذ الماضي، و ما زالت تتردَّدُ في أرجائها.. أصواتنا مِن العطف، و الدفء، أو أصواتنا مِن الاحتقار، و البرود ما هي إلا أصوات خارجية في الأساس، اعتدنا سماعها منذُ سنوات تكويننا الأولى، و اندمجنا فيها، و اندمجت فينا؛ حتى صارت جزءًا منا تلك الأصوات هي صوت الأب، و الأم، و الأخ الأكبر، و المُدرِّس، و غيرهم.

لقد استوعبنا صوت الأم المُفعَم بالحنان، و دعوات الجدَّة الحميمة التي كانت تغدِقُها علينا.. استوعبنا صراخ الأب الزَّاجر لنا، و عصبيّة المُدرِّس الذي يصعُب إرضاؤه، و رسائل التَّنمُّر من زملاء الدراسة..

استوعبنا مثل تلك الأصوات، و تأصَّلت فينا؛ لأنها بَدَت مُقنعةً للغاية فِي وقتها، و لأنها حَمَلت قدْرًا مِن السُّلطة علينا، و تكرَّرت مِرارًا؛ حتي تكوّنت بها عاطفتُنا و محبتنا تجاه أنفسنا.

بدُون قدرٍ لائقٍ مِن حُب الذات، فإن أغلب علاقاتنا العاطفية مع الآخرين تصبح عُرضةً للفشل و قدرتنا على استقبال المحبَّة من الغير، و الثقة في صِدق عواطفهم تجاهنا

بدون حب الذات، سوف نستنكرُ كل المُعاملات الإيجابية التي تُمنحُ لنا: الصداقات الجديدة، ترقيِّات العمل، عبارات الثناء، أو المدح سوف نُهدر -بلا وعيٍ- فُرصنا السانحة في محاولاتٍ منا لإعادة واقعنا الخارجي إلى ما يتماشى مع تقييماتنا الداخلية.

نحن بحاجة إلى إرثٍ مِن الشعور بأننا بطريقة ما نستحقُ الحب؛ حتّى لا نستجيب بشكلٍ مُعتَلٍّ، و فاترٍ تجاه المشاعر الكريمة الممنوحة لنا من قِبل الآخرين.

لسنا بحاجةٍ إلى أن نطمس صوت القاضي في داخلنا، بل إلى أن نكون قُضاةً أفضل، و أكثر عدلًا، و رحمةً بأنفسنا. نحتاج إلى أن نسمحَ لصوتِ الأمِّ الحانِيِّ، و دعوات الجدَّة الحميمة بأن تحتلَّ رحابًا أوسَع في عقولنا.. و أن نرَى بأعينهم جوانبنا الأكثر جمالًا.. و أن نتفهَّمَ بحُبِّهم اللامشروط، و توجيههم الرؤوف عَثراتنا، و جوانبنا المُعتمة.

نحتاج إلى أن نكون أصدقاءً جيِّدين لأنفسنا.. و مثلما نحن بارعون في منح الصداقة لغيرنا، و نشر استراتيجيات الحكمة، و العزاء في لحظات فشلهم، نحتاج إلى أن نمنحها لأنفسنا كذلك.

نحتاج إلى أن نتعلم فن الرأفة بالذات و ألا نُغالطها بالأنانية الرأفة بالذات هي الرحمة التي تقدمها لنفسك هي الجانب الأكثر نضجًا فيك، الذي يعلمك كيف تحب نفسك، و تُقدّرها.

فحين يرحل عنك مَن أحببته حقَّ الحب، و رسمت مِن أجله أحلامَ الغد، فلا تستكره أنَّ في نفسك مَا يُنفِّرُ الناس مِنك، و هو ليس فيك، بل أحبِبْ أنَّ في قلبك ذُخرًا مِن سلامة النوايا، و صدق المشاعر.. و أنك تعرف الحبَّ حقًّا، و تمنحُه جمًّا. و أنَّما قد صُدَّ سعيُك؛ لأن في عُقباه شرٌّ. و خُبِّئَ كنزُك لِمَن هو به أحقّ.

و حين تجد حضورك غائبًا بين التجمعات، و خافتًا وسط الحفلات، فلا تستكره أنك غريبٌ لا تروقُ لأحدٍ، بل أحبب أنَّ لك ذوقًا خاصًّا، و شغفًا مُختلفًا.

و حين يندرُ حولك المقرّبون، و يتعصَّى عليك الاختلاط، فلا تستكره أنك لست جديرًا بصحبة أحد، بل أحبب أنك عزيز الطموح، شديد الانتقاء و قبل كل شيء فإن طباعَنا و ميولَنا، و أنماط شخصياتنا كلها -تقريبًا- تتشكَّلُ جذريًا فِي سنوات طُفولتنا الأولى.

لذلك، يبقى أعظم إنجاز يُمكن أن يُقدّمَه شخصٌ ما للبشرية هو أن ينشأ تحت رعايته ابنٌ مُشبَّعٌ بالحُب، و أن يُخرِجَه إلى العالَم سَليمَ الشخصيّة، و سَويَّ النَّفسيّة.

 

في رُكنٍ ما في أذهاننا، يجلس ذلك القاضي

اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading