في رُكنٍ ما في أذهاننا، يجلس ذلك القاضي

في رُكنٍ ما في أذهاننا، يجلس ذلك القاضي.. يُشاهدنا، يُراقبُ أفعالنا، يدرِسُ تأثيرنا على الآخرين، يُتابعُ نجاحاتنا، و اخفاقاتنا.. و بعد ذلك، فِي نهاية المطاف، يُصدِرُ حُكمًا علينا.
و على أساس هذا الحكم، يتشكَّلُ إحساسُنا الكاملُ بأنفسنا، و يتحدَّدُ فينا قدر ثِقتنا، و حُبِّنا لذواتنا.. و مِن ثمَّ، يتردد فينا صوتٌ قوي ليخبرنا مَا إذا كُنا كائناتٍ جديرةً بالوجود، و الاهتمام، أو أننا لسنا كذلك حقًا.. ذلك الصوت الداخلي هو صوت تقديرنا لأنفسنا.
بعضه إيجابيٌ حميدٌ، يَدعمُنا، و يحُثُّنا على استكمال الخطوات القليلة الباقية و أكثره انهزاميٌ و عقابيٌ، يملؤنا ذُعرًا و لا يعكس حقيقتنا مقارنةً بأفضل أفكارنا، أو أعظم قدراتنا.
عقولنا ما هِي إلا مساحات كهفية سحيقة، نَشَأَت فيها أصواتنا الداخلية منذ الماضي، و ما زالت تتردَّدُ في أرجائها.. أصواتنا مِن العطف، و الدفء، أو أصواتنا مِن الاحتقار، و البرود ما هي إلا أصوات خارجية في الأساس، اعتدنا سماعها منذُ سنوات تكويننا الأولى، و اندمجنا فيها، و اندمجت فينا؛ حتى صارت جزءًا منا تلك الأصوات هي صوت الأب، و الأم، و الأخ الأكبر، و المُدرِّس، و غيرهم.
لقد استوعبنا صوت الأم المُفعَم بالحنان، و دعوات الجدَّة الحميمة التي كانت تغدِقُها علينا.. استوعبنا صراخ الأب الزَّاجر لنا، و عصبيّة المُدرِّس الذي يصعُب إرضاؤه، و رسائل التَّنمُّر من زملاء الدراسة..
استوعبنا مثل تلك الأصوات، و تأصَّلت فينا؛ لأنها بَدَت مُقنعةً للغاية فِي وقتها، و لأنها حَمَلت قدْرًا مِن السُّلطة علينا، و تكرَّرت مِرارًا؛ حتي تكوّنت بها عاطفتُنا و محبتنا تجاه أنفسنا.
بدُون قدرٍ لائقٍ مِن حُب الذات، فإن أغلب علاقاتنا العاطفية مع الآخرين تصبح عُرضةً للفشل و قدرتنا على استقبال المحبَّة من الغير، و الثقة في صِدق عواطفهم تجاهنا
بدون حب الذات، سوف نستنكرُ كل المُعاملات الإيجابية التي تُمنحُ لنا: الصداقات الجديدة، ترقيِّات العمل، عبارات الثناء، أو المدح سوف نُهدر -بلا وعيٍ- فُرصنا السانحة في محاولاتٍ منا لإعادة واقعنا الخارجي إلى ما يتماشى مع تقييماتنا الداخلية.
نحن بحاجة إلى إرثٍ مِن الشعور بأننا بطريقة ما نستحقُ الحب؛ حتّى لا نستجيب بشكلٍ مُعتَلٍّ، و فاترٍ تجاه المشاعر الكريمة الممنوحة لنا من قِبل الآخرين.
لسنا بحاجةٍ إلى أن نطمس صوت القاضي في داخلنا، بل إلى أن نكون قُضاةً أفضل، و أكثر عدلًا، و رحمةً بأنفسنا. نحتاج إلى أن نسمحَ لصوتِ الأمِّ الحانِيِّ، و دعوات الجدَّة الحميمة بأن تحتلَّ رحابًا أوسَع في عقولنا.. و أن نرَى بأعينهم جوانبنا الأكثر جمالًا.. و أن نتفهَّمَ بحُبِّهم اللامشروط، و توجيههم الرؤوف عَثراتنا، و جوانبنا المُعتمة.
نحتاج إلى أن نكون أصدقاءً جيِّدين لأنفسنا.. و مثلما نحن بارعون في منح الصداقة لغيرنا، و نشر استراتيجيات الحكمة، و العزاء في لحظات فشلهم، نحتاج إلى أن نمنحها لأنفسنا كذلك.
نحتاج إلى أن نتعلم فن الرأفة بالذات و ألا نُغالطها بالأنانية الرأفة بالذات هي الرحمة التي تقدمها لنفسك هي الجانب الأكثر نضجًا فيك، الذي يعلمك كيف تحب نفسك، و تُقدّرها.
فحين يرحل عنك مَن أحببته حقَّ الحب، و رسمت مِن أجله أحلامَ الغد، فلا تستكره أنَّ في نفسك مَا يُنفِّرُ الناس مِنك، و هو ليس فيك، بل أحبِبْ أنَّ في قلبك ذُخرًا مِن سلامة النوايا، و صدق المشاعر.. و أنك تعرف الحبَّ حقًّا، و تمنحُه جمًّا. و أنَّما قد صُدَّ سعيُك؛ لأن في عُقباه شرٌّ. و خُبِّئَ كنزُك لِمَن هو به أحقّ.
و حين تجد حضورك غائبًا بين التجمعات، و خافتًا وسط الحفلات، فلا تستكره أنك غريبٌ لا تروقُ لأحدٍ، بل أحبب أنَّ لك ذوقًا خاصًّا، و شغفًا مُختلفًا.
و حين يندرُ حولك المقرّبون، و يتعصَّى عليك الاختلاط، فلا تستكره أنك لست جديرًا بصحبة أحد، بل أحبب أنك عزيز الطموح، شديد الانتقاء و قبل كل شيء فإن طباعَنا و ميولَنا، و أنماط شخصياتنا كلها -تقريبًا- تتشكَّلُ جذريًا فِي سنوات طُفولتنا الأولى.
لذلك، يبقى أعظم إنجاز يُمكن أن يُقدّمَه شخصٌ ما للبشرية هو أن ينشأ تحت رعايته ابنٌ مُشبَّعٌ بالحُب، و أن يُخرِجَه إلى العالَم سَليمَ الشخصيّة، و سَويَّ النَّفسيّة.
في رُكنٍ ما في أذهاننا، يجلس ذلك القاضي
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


