
مقال × حدوته
مقال × حدوته الزنانة هي مش شريرة ولا نكديةهي بس زنانة من طراز رفيع إمرأة يشهد لها الصديق قبل العدو أنها تقدر تفتح موضوعًا من لا شيء، وتكمّله كأنه نشرة أخبار عاجلة لا تحتمل التأجيل.
تستقبل زوجها كل يوم بفاصل من العناوين السريعة : عارف مرات ابن خالتي عملت إيه؟.. وشوفت فستان أختي كان بشع إزاي؟.. المديرة دي شكلها مش بتحبني.
كل يوم فيلم جديد وبطولة مطلقة.
أما الزوج، فكان بطلًا من نوع آخر، صامتًا .. يكتفي بالابتسامة الباهتة، ويختبئ وراء الجريدة كمن يرفع راية الاستسلام.
لكن في يوم قرر يعمل حاجة مختلفة.
قرر يديها درسًا من غير خصام ولا إهانة.
رجع البيت كعادته جلس على الكرسي، لكنه هذه المرة سبقها بخطوة.
قبل أن تفتح فمها بدأ هو الحديث بحماس مفاجئ: تخيلي أسانسير العمارة اللي قدامنا اتعطل ،والكُشك اللي تحت البيت عنده بسكوت، وبعدين السواق بتاع الميكروباص كان بيكلم واحد بيحكيله عن علبة سردين كانت فاضية.
وقعد يحكي ويحكي .. ربع ساعة كاملة عن “اللا شيء”.
وهي قاعدة، مش فاهمة إذا كان بيهزر ولا اتجنن.
وأخيرًا أنفجرت: هو في إيه؟!.. إيه كمية المواضيع اللي ملهاش لازمة ولا فيها ربط؟.
أبتسم وقال بهدوء: ده نفس الكلام اللي كنتِ بتحكيهولي كل يوم، بس المرة دي أنا اللي أبتديت الزنّ.
سكتت لحظة.. وبعدين ضحكت.
ضحكت من قلبها، وقالت له: خلاص يا سيدي، فهمت الدرس .. من النهارده مش هتسمع غير الكلام اللي ليه طعم.
ومن يومها، صارت تتحدث أقل، وتختار كلماتها أكثر.
واكتشفت أن الصمت أحيانًا أبلغ من ألف حكاية.
القصة دي مش عن بطلتنا لوحدها دي عننا كلنا.
عن زمن بقى فيه الكلام كتير، والإنصات نادر.
عن بيوت امتلأت بالضجيج، وقلوب بقت عطشانة لهدوء بسيط يرممها.
إحنا بنسمع يوميًا آلاف الكلمات من الشاشات، والموبايلات، والزملاء، والطرق .. فبقت طاقتنا مزدحمة لدرجة إن الجهاز السمعي نفسه بقى مرهق.
الحياة دلوقتي مابقتش مستحمّلة كلام كتير ما لوش لازمة.
الإنسان اللي راجع من يوم شغل طويل مش ناقص يسمع “نشرة مسائية” في بيته، هو محتاج يسمع نبض راحة، صوت طمأنينة.
خلّي الكلام له وقته، وللصمت مكانه.
الكلمة لما تُستهلك في اللا شيء، تفقد معناها.
والحب مش في عدد الجمل، بل في اختيار اللحظة اللي نتكلم فيها .. واللحظة اللي نسكت فيها بأحترام.
فربما أعظم ما يمكن أن نقدمه لمن نحب،هو مساحة من الهدوء
نقول فيها كل شيء دون أن نقول شيئًا.
وختامًا: أنا آسف .. يمكن المقال ده من أطول مقالاتي
وأتمنى ألا أرى في وجوهكم ملامح ملل أو ضيق فقد تعمّدت الإطالة لأثبت أن كثرة الكلام ليست بالضرورة نفعًا.
فـ“خير الكلام ما قلَّ ودلّ .. حتى في الحب، وحتى في الكتابة، وحتى في الحياة.

اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

