وداعاً أيها الخريف
وداعاً أيها الخريف
بقلم: محمد خطاب
ماإن وضع إحدى قدميه بالدرج قبل الأخير من السُلم الخشبي حتي
وقعتْ عيناه حيثُ طاولتهُ التي إعتاد الجلوس بها منذ أكثر من
ثلاثةِ سنوات ، حتى أصبحت وكأنها خاصته هو فقط وهذا معلومٌ
جيداً لدى جميع من يعملون بهذا المنتجع النيلي، حيث تمتاز بإنها
تنزوي بنهاية المكان من الجهة الشمالية التي تشبه رأس المثلث أو
الهرمي فمساحته فرضتْ عليه وجود طاولة واحدة فقط ومقعد،
فكان هذا المكان يحتوي قبل أن يوضع به الطاولة والمقعد على
إصيص متوسط الحجم لشجرة من نبات الظل( الفيكس) والذي
إقترح وضع الطاولة والمقعد بدلاً من شجرة الفيكس هو محسن
وهو الذي جعل الشجرة تفصل بين طاولته وبين باقي المكان ،فمن
يجلس بها يُصبح في شبه عزلة عن باقي المكان ويخلو بالبحر من
أمامه، فالأمر الذي كاد يجعل قدمه تتعثر بالدرج الأخير، مما جعله
يختل توازنه وكاد يسقط أرضا أن الطاولة لم تكن شاغرة كماإعتادها،
فنهاك من يجلس بها، فإحمر وجهه ونفرت عروقه، وبنرة منخفضة
ولكن يغلفها شيء من الحدةِ من الرغم من أن المكان رغم شساعته
شبه خالي من الأشخاص، إلا من طاولتين أو ثلاث بالأكثر، قد حظت
دون الأُخريات بالإستمتاع بالإستطراء إلى همس العاشقين، المحبين،
الهائمين، بليلةٍ من ليالي الخريف المرتحل، التي تخللها لسعات صقيع
مبكرة تعلن عن شتاء على أعتاب طرقات تساقطت عليها دموع
عاشقين مع أوراق الخريف، بلفحات هواء محملة برائحة مياه النهر
ممزوجة بأريج طِيب العاشقين الذي يظل عبقهُ عالقاً بالطاولات
والمكان لزمنٍ بعيد بعد رحيل العاشقين ..
همس بأذن النادل يعاتبه لِمَ سمح لغيرهِ بالجلوس بطاولته المفضلة
فأخبرهُ النادل بأنه حاول وبإلحاح شديد بتنحيها عن تلك الطاولة
وإنه أخبرها بأن تلك الطاولة مخصصة لشخص واحد فقط منذ
سنوات، وبالرغم من محاولات النادل معها بإستعطافها تارة، وتارة
بإبراز أفضلية أماكن طاولات آخرى إلا إنها أصرت ألا تغادر تلك
الطاولة، وقالت بأسلوب الحسم للنادل بأن الطاولات ليست حِكراً
على أحد مع طلبها بإحضار فنجان من القهوة، فما كان من النادل إلا
الإمتثال أمام سيدة يبدو عليها الوقار وذو شخصية قوية، ومن
ذكائِها لا تُعطيك فرصة للجدال معها، فبُهت محسن أمام كلمات
النادل وتسمرت قدماه وهو محدق بناظريه حيث طاولته، ويكتم
ثورته بداخله وهو يريد أن يثأر ممن إحتل وطنه وإغتصب ملكيته
التي لم يجرؤ للإقتراب منها أحد من قبل منذ سنوات .. مرت
لحظات، مع النسمات الباردة القادمة من فوق صفحة النهر جعلت
سريرته تهدئ أضطر للجلوس بطاولة آخرى مع إستدعاء فنجانه
المفضل من القهوة، وضع(اللاب توب) أمامهُ كالمعتاد، أخذ رشفة من
القهوة، إستطرد يدون خواطره، ترددت أنامله بلمس الأحرف
(بالكيبورد) إنتابه الشعور بالضيق، أغلق(اللاب توب )، ترك فنجان
القهوة الذي يفضله ولم يكمله، غادر المكان وهو يهرول، مع نظرات
الإندهاش والتعجب التي تودعه من العاملين بالكوفي ..
تكرر هذا الموقف عدة مرات مما جعل صبره ينفذ، وأصبح خانقاً،
فكلما أتى يجدها قد إستبقته إلى الطاولة بالرغم من إنه أتى مبكراً
عن موعده، لكن دون جدوى، كما لو كانت تقرأ أفكاره، الأمر الذي
جعله لم يعد إليه قدرة على التحمل ودفعه إلى التوجه إليها ..
وما إن مَثِلَ أمامها فوقف جامداً، أُلجمّ لسانه، تجمد مكانه بمجرد
أن رفعتْ إليه عيناها الزرقاوتان، الواسعتان، لم يفق لنفسه إلا عندما
عاودت النظر إليه مع إبتسامة خفيفة، فتجمد مكانهُ كمن خر من
السماء، تمضي اللحظات ولم يتفوه بكلمة، لقد أصابت سهام عينيها
قلبه وتسرب خدرهما بجسده، وصُعٍقَ أمام بريقهما، وإزداد هياماً
عندما لمس أُذنيه صوتها الذي هو أقرب لنغمات (كمان) ناعمة
ساحرة ..
لقد ذهب كل شيء مع أول لقاء بأمرأة هي أقرب للملائكةِ منها للبشر
قد تأخر سنوات طويلة، لقاء ما طال إنتظاره، ذهبت ثورته وأصبحت
برداً وسلاماً، تبدد غضبه، مع نسمات السحر والجمال التي أحاطت
بهما وعزلتهما عن عالمهما وسمت بهما إلى عالٍم آخر ..
إنقطع الصمت وتلاشى مع إبتسامتها الرقيقة وكلماتها العذبه، وهي
تُطرب أُذنيه، وتُشجي أحاسيسه عندما ..
أبدت أسفها لإحتلالها لتلك الطاولة وهذا المكان بالرغم من عِلمها من
عامل الكوفي إنها مخصصه منذ سنوات لشخص بعينه، وبالرغم من
محاولاته وإلحاحه لكي تتنحى عن هذا المكان، لقد وجدت أن هذا
المكان قد إحتواها ولم يُشعِرها بما حولها وذهب بها إلى عالم آخر،
وعندما همَّتْ بالرحيل وهي تعتذر عما بدر منها، ولولا ما رأته بحالهِ
ومدى تأثره من فقدهِ لمكانهِ العزيز إليه، ما كانت تاركته، فهمَّ مسرعاً
دون إدراك بالقبض على معصميها وإستحلفها بألا تُغادر ولا ترحل
وإن إحتلت الدنيا بأثرها، بل هو الذي سيغادر، عاد الصمت يُخيم من
جديد، حاول كلٌ منهما أن يؤثر الآخر عن نفسهِ ..
مَثُلتْ لرغبته للإنتقال لطاولة آخرى بمقعدين لتبادل الحديث بضع
دقائق، فكان كل منهما كما لو كان على موعد مع الآخر، فقد تجاوزتْ
الأربعين عاماً، وكم تعاني من الوحدة، بعد أن أدت رسالتها كاملة
تجاة أبنيها اللذان تركهما والدهما وهما طفلين صغيرين بعد
إنفصالهما، وبعد أن أصبح لكلٍ منهما بيته وحياته تركاها وحيدة
وكلما بعُدَ الزمن زادت فجوة الفراق، وهو الذي تجاوز الخمسين عاماً
وبالرغم من إنه يعيش بين الآخرين، ولكنه يعيشُ وحيداً، طال
الحديث وتعانقت الكلمات وهي ترفرف بفضاءٍ رحب، تعاهدا أن لا
فراق، وليبدأ الربيع، فوداعاً أيها الخريف.
محمد خطاب إبراهيم ،،
الثلاثاء/ 11/4/2023
وداعاً أيها الخريف
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.