مقالات ووجهات نظر

“رساله من طفل نجا بجسده فقط، والطفل بداخله مازال عالقًا هناك”

بقلم . محمود السبد محمد

"رساله من طفل نجا بجسده فقط، والطفل بداخله مازال عالقًا هناك"“رساله من طفل نجا بجسده فقط، والطفل بداخله مازال عالقًا هناك”

في ريفٍ تنضج فيه الطفولة قبل أوانها، لا مكان للهو، ولا وقت للأسئلة..

بين شقوق الأرض وأوامر الكبار، كأنه خُلق ليعمل لا ليحلم.

رأيت ڤيديو لطفل يعمل في الحقل

كان طفلًا لم يتجاوز السادسة، يحمل فوق كتفيه ما لا تقوى عليه الجبال. وجهه الصغير المترب، يداه المتشققتان، ونظراته التي تخبر الجميع بأعوام لم يعشها، يصرخ في صمت: “أنا مجرد طفل!!”

لكنهم يصفقون له، يمتدحونه، يقولون عنه “راجل بجد”، “سند أبوه”، “ابن أصول” وكأن الضحك واللعب والركض خلف كرة القدم، رفاهية لا تليق بمن وُلد في قرية نائية، أو بيتٍ محدود الخيارات..

هذا المشهد ذكرني بطفولتي التي لم أعشها..!

ولكن، منذ متى صار العرق بديلًا عن الدُمى، والألم طريقًا إلى الرجولة؟ كيف تحوّل الطفل من كائن هش يستحق الحماية، إلى مصدر رزق، وعامل مجبر على أن يكبر قبل أوانه؟

 وهناك آلاف الأطفال يعملون تحت السن القانوني، يُسلب منهم حقّهم الطبيعي في الحياة. يذهبون للحقول، أو الورش أو المصانع، أو الشوارع، لا لأنهم أقوياء، بل لأن الكبار قرروا أن يكونوا ضعفاء أمام مسؤولياتهم..

 قرروا أن يأتوا بهم إلى هذا العالم، ثم يتركوهم ليخوضوا معاركه وحدهم.

ولعلّ أكثر ما يختصر قسوة هذا الواقع، ما جرى قبل أيام قليلة في محافظة المنوفية، حين خرجت 19 فتاة في عمر الزهور من بيوتهن فجراً، متجهات إلى أحد المصانع من أجل يومية لم تتجاوز 130 جنيهًا. لم يكن في الحسبان أن تتحول رحلتهن إلى آخر طريق، بعد حادث مفجع على الطريق الإقليمي. لم تُمنح لهن فرصة للاختيار، ولا حتى لحلم بسيط بالحياة، فقط سُحبن فجأة من طفولتهن إلى القبر، لأن الفقر كان أقوى من كل شيء.

وأنا أكتب هذه الكلمات، لا أحكي عن طفل غريب فقط أو اخبركم بحادث،

 بل عني أيضًا. كنت واحدًا من هؤلاء الصغار الذين حملوا الفأس بدل الدمية، وسافروا إلى القاهرة للعمل قبل أن يعرفوا طريق المدرسة جيدًا.. 

تنقلت بين المهن، بين الناس، وبين التعب، وأنا ما زلت طفل صغير، لم أكن أبحث عن الرجولة، بل كنت أبحث عني.. عن حقٍّ مؤجل، عن طفولة تُركت في العمل، ولم تعد..!

أي قسوة هذه التي تدفع أبًا ليحمّل طفله عبء الحياة؟ وأي جهل هذا الذي يجعل أمًّا ترى في تعب ابنها شرفًا؟

ليس كل من يعمل صغيرًا هو بطل، وليس كل من تحمّل الألم طفلًا يُعدّ قدوه، ياسيدي الطفولة ليست ميدانًا للبطولة، بل حضنًا للبراءة، للعب للمرح..

ومن حق كل طفل أن يعيشها كما ينبغي: لعبًا، وحبًا، ودفئًا، وقصصًا قبل النوم… لا أحاديث عن المحاصيل، ولا إلقاء اللوم و المقارنه اللعينه، ولا حمل الفأس..

ليست الفلاحة عارًا، ولا العمل مذمّة، لكن أن نختصر حياة الطفل في الشقاء، فقط لأننا فشلنا في حمايته، فذلك هو العار الحقيقي. أن نراه يتألم ونصفق له، 

 أن نستبدل الرعاية للطفل بالتجاره به..!

أيها الآباء، أيّتها الأمهات، لا تورّثوا أبناءكم فقر الأحلام قبل فقر المال. لا تزرعوا فيهم الخوف من الراحة، ولا تعلّموهم كره البراءة. أنتم مسؤولون أمام الله،

لا عن جوعهم فقط.. بل عن ضحكاتهم التي لم تولد، وألعابهم التي لم تُشترَ، وأحلامهم التي سُرقت على أيديكم.

الطفولة ليست رفاهية، بل حق. والعمل ليس بطولة، بل أحيانًا جريمة حين يُفرض على من لا يملكون خيارًا. فامنحوا أطفالكم حقّهم في أن يكونوا أطفالًا… لا أكثر.

 

 

“رساله من طفل نجا بجسده فقط، والطفل بداخله مازال عالقًا هناك”

أحمد حمدي

نائب رئيس مجلس الإدارة والمدير العام التنفيذي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى