على رمال الشوق
على رمال الشوق
بقلم/ د.إسراء محمد عبد الوهاب
على حواف الزمن، حيث تلتقي الأرواح بالذكريات، هناك مكانٌ لا يطأه إلا قلب متعب يبحر في محيط الصمت. أحيانًا، نرتمي بين تفاصيل الحياة فتجرفنا أمواج الأيام إلى شواطئ لم نخطط الوصول إليها. شواطئ مليئة بالرمل الناعم الذي تركت عليه خطوات قديمة، تكاد تُمحى، لكنها تبقى شاهدة على مرورنا، وكأن الحياة تُصرّ على تخليد آثارنا، حتى لو بعثرتها الرياح في النهاية.
في مساءٍ هادئ، يجلس رجل وحيد على مقعد خشبي متهالك، يُطل على بحرٍ لا يهدأ. عيونه غارقة في الأفق البعيد، حيث تلامس السماء البحر بلونٍ رمادي قاتم. كان الوقت يمضي ببطء، لكنه لم يكن يشعر بالملل. في ذلك الصمت المهيب، كان يسمع صوت ذكرياته تُناديه من بعيد، تُحادثه كما لو كانت صديقته الوحيدة.
لقد عاش هذا الرجل ما يكفي ليُدرك أن الحياة ليست بعدد الأيام التي نعيشها، بل بعدد اللحظات التي تُزهر في قلوبنا، وبعدد المرات التي نُعيد فيها إحياء ما مات بداخلنا. يتذكر وجه أمه حين كانت تُغني له لينام، صوت والده وهو ينصحه حين ارتكب أخطاءه الأولى، ابتسامة حبيبة قديمة رحلت قبل أن يقول لها كم أحبّها. يتذكر نفسه وهو يركض طفلًا في أزقة الحي الضيق، يحلم بما لم يعرف أنه سيصير أثقل من أحلامه الصغيرة.
تمرّ الحياة أمامه كفيلم قديم، مملوء بالمشاهد التي افتقدها. ذلك الضحك الذي كان يأتي من القلب دون تفكير، تلك الأحاديث الطويلة في ليالي الشتاء الباردة، ذلك الدفء الذي لا تُدركه إلا حين تفقده.
تُسافر روحه بين الأزمنة، تُحلق بعيدًا حيث الأمان الذي لم يعد موجودًا. يتساءل: هل كانت الحياة أجمل يوم كنا أبسط؟ هل السعادة تُختبئ في زوايا الأشياء التي اعتدناها فنسينا قيمتها؟ يتنهد ويرفع نظره نحو السماء، وكأنها تحتوي الإجابة التي يبحث عنها.
ثم ينهض ببطء، وكأنه يودع المكان، يترك خلفه مقعدًا خشبيًا آخر قد يلتقط أنفاس عاشق جديد أو وحيدٍ آخر. يمضي بخطوات هادئة، لكنه يدرك أن الأثر سيبقى، وأن الحنين قدر لا نجيد الهرب منه.
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.