
أمية الفقر: الجرح المفتوح في جسد المجتمعات
الأمية لم تعد تعني فقط الجهل بالقراءة والكتابة بل أصبحت تشمل عجز الإنسان عن مواجهة الواقع وتعقيداته وأبرز صورها أمية الفقر التي باتت تهدد استقرار المجتمعات وتعرقل تطورها
في ظل أزمات اقتصادية متلاحقة تعصف بأحلام البسطاء الذين يعانون من غياب الأمان المادي والقدرة على توفير احتياجاتهم الأساسية
ففي الوقت الذي تشيد فيه الدول المشروعات الكبرى وترفع من شأن العمران نجد الآلاف من الأسر تكافح من أجل البقاء على قيد الحياة ولا تملك حيلة سوى مواجهة ظروف معيشية قاسية تدفعهم إلى خيارات يائسة
لقد أصبح الفقر عبئًا نفسيًا واجتماعيًا يتحمل تبعاته الرجل الذي يجد نفسه عاجزًا عن الوفاء بمتطلبات أسرته في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وقلة الفرص المتاحة مما يدفع البعض إلى الانتحار للتخلص من ثقل المسؤولية
والبعض الآخر إلى الجنون وعدم القدرة على تحمل الضغوط التي تنهش عقولهم ولعلنا لا نغفل عن الحوادث المأساوية التي شهدناها في السنوات الأخيرة من رجال قتلوا أسرهم ثم أنهوا حياتهم
لأنهم شعروا بالعجز التام عن مواصلة الكفاح من أجل حياة كريمة.
الأمر لا يتوقف عند حدود الرجل بل يمتد ليشمل المرأة التي قد تضطر إلى تزويج بناتها القاصرات للتخفيف من أعباء المعيشة فتجد فتيات صغيرات يخرجن من عبء الفقر إلى معاناة زواج مبكر يسلبهن طفولتهن
ويضعهن في دائرة لا تنتهي من المشكلات الاجتماعية والنفسية كما أن عمالة الأطفال أصبحت صورة أخرى للفقر حيث يضطر الآلاف من الصغار إلى ترك مدارسهم والانخراط في أعمال شاقة
تسرق منهم أحلامهم وحقوقهم الأساسية فقط ليساهموا في إعالة أسرهم المتضررة من قسوة الظروف
في الشوارع تتزايد ظاهرة التسول والنبش في حاويات القمامة لأجل كسرة خبز يابس التي تعكس حجم المعاناة الإنسانية للفئات الأكثر تهميشًا في المجتمع
فنجد الأطفال والشيوخ والنساء يبحثون عن لقمة عيش في الطرقات بين السيارات وفي الأسواق دون أي ضمانات تحمي كرامتهم أو تؤمن مستقبلهم تلك المشاهد اليومية
تؤكد أن أمية الفقر لا تقتصر على الجهل بالموارد بل هي انعدام العدالة الاجتماعية وانهيار شبكة الأمان التي كان ينبغي أن تحمي الأفراد من الوقوع في دوامة الحاجة.
المبادرات المجتمعية والمساعدات الحكومية قد تخفف من معاناة الفقراء لكنها تظل حلولاً مؤقتة لا تعالج جذور الأزمة التي تتطلب رؤية شاملة لإعادة بناء الإنسان وتمكينه من خلال التعليم وتوفير فرص عمل لائقة وتحقيق سياسات اقتصادية عادلة تسهم في تقليص الفجوة بين الطبقات وتحقيق التوازن بين المشاريع القومية واحتياجات المواطن البسيط لأن النهضة الحقيقية تبدأ من الإنسان الذي يعتبر الركيزة الأساسية لأي تقدم مستدام.
والعالم أجمع يسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة التي تقوم على التوازن بين احتياجات الحاضر ومتطلبات المستقبل دون إهدار للموارد أو تهميش لفئة على حساب أخرى إلا أن الفقر يقف حاجزًا أمام تحقيق هذا الهدف السامي.
حيث لا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية في ظل تزايد أعداد الفقراء وانتشار مظاهر المعاناة التي تعكس عمق الأزمة فبينما تركز الدول على بناء مشروعات كبرى
لتحقيق النهضة الاقتصادية نجد أن ملايين البشر يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة مما يجعل التنمية المستدامة حلمًا بعيد المنال إذا لم تكن هناك سياسات شاملة تضع الإنسان في قلب أي عملية تنموية.
إن أمية الفقر ليست مجرد نقص في الموارد بل هي نتيجة غياب العدالة الاجتماعية التي يجب أن تكون الأساس في أي رؤية تنموية متكاملة فمن غير الممكن تحقيق التقدم
مع تجاهل احتياجات الفئات الأضعف في المجتمع الذين يعانون من البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة وفقدان الأمل في المستقبل خاصة في ظل أزمات اقتصادية عالمية أثرت على الجميع وزادت من التحديات التي تواجه الأسر البسيطة.
ولأن التنمية المستدامة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتمكين الأفراد فإن معالجة أمية الفقر يجب أن تكون أولوية قصوى حيث تتطلب استراتيجيات فعالة تشمل توفير فرص عمل عادلة وتعزيز التعليم وإصلاح الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية
بحيث تحقق التوازن بين تحقيق الإنجازات القومية ورعاية المواطن البسيط الذي يمثل القلب النابض لأي أمة تسعى لتحقيق مستقبل أكثر استقرارًا وإنصافًا
أمية الفقر: الجرح المفتوح في جسد المجتمعات
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.