
**”حين تُشوَّه النوايا: هل القُربى دائمًا رحِم؟”**
في زمن السرعة والضغوط والانشغال، تاهت واحدة من أعظم الوصايا السماوية: صلة الرحم. مش بس تاهت، دي اتحولت عند البعض لعبء، واتكسرت عند آخرين على صخرة المصالح، واندثرت عند أجيال جديدة ما تعرفش حتى صلة القرابة مين! ونسينا !! إن العلاقات اللي بتقوم على الدم والرحمة، مش المفروض تنهار عند أول خلاف، ولا تنتهي عند أول مشكلة، ولا تتعلق بقدر ما نحصل عليه من الآخر، بل بقدر ما نقدمه من حب وصدق وصفاء نية.
“الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله” حديث شريف عظيم… يخلينا نقف، نفكر، ونراجع نفسنا. إحنا ليه بقينا كده؟ قال الله تعالى: “والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب” [الرعد: 21] صلة الرحم مش اختيار، دي عبادة. ولو نسيناها، بنخسر رضا الله، وبركة العمر، وسكينة القلب.
التربية الخاطئة والتصيد… بوابة القطيعة
نربي أولادنا على التفوق، على الشطارة، على ترتيب السرير ونظافة الأسنان، لكن نادراً ما نغرس فيهم قيمة زيارة عمهم أو خالهم، أو حتى السؤال عن أختهم الكبيرة اللي اتجوزت وسكنت بعيد. لما نغرس في أولادنا الحذر بدل المحبة، المنافسة بدل التعاون، الحكم على الناس بدل العذر ليهم… النتيجة: قطيعة، حقد، ومشاكل. “التمس لأخيك سبعين عذرًا” فينها دلوقتي؟
بقينا نرصد الغلطات، نحسب عدد الزيارات، ونقارن مين جاب إيه، ومين قال إيه! لكن بننسى نربيهم على إن الأهل أولى بالود من الصحاب، وإن اجتماع العيلة عبادة مش واجب اجتماعي! لما يكبروا وما يعرفوش ولاد خالتهم او عمهم، دي مش غلطة الزمن… دي غلطة تربيتنا.
الدنيا نصيب… والعِشرة طيبة
ما تحكمش على أولاد أخوك أو أختك أو ابن خالك أو عمك إنهم أقل من أولادك، الدراسة نصيب، الوظيفة نصيب، حتى القَبول عند الناس نصيب. ما تعيّرش حد بنعمة ربنا ادهالك، لأن النعم مش مقياس قيمة، لكنها ابتلاءات مختلفة.
نقّي نيتك… ما تستنتجش السوء!
مش كل اللي ما جاوبش على اتصالك بيتجاهلك، ومش كل اللي ما حضرش مناسبة بيكرهك، ومش كل اللي قال كلمة وقت غضب كان يقصدك. احنا بشر، وكلنا عيوب. الصح مش إننا نتصيد لبعض الأخطاء ونستغل الغلطات ونبني عليها قطيعة، الصح إننا نتعامل مع عيوب بعض، مش نطرد بعض بسببها.
اللي بينقل الكلام، بيشعل نار، واللي ينمّ، بيهدم عيلة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة نمّام” ليه نسمح لكلمة تتقال وقت زعل تهد سنين من العِشرة؟
ربنا قال: “واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً” [النساء: 1]. وصية مباشرة، شديدة الوضوح. والأرحام دي مش اختياري، دي عبادة. وتركها معصية.
لما الأم والأب بيرحلوا… هل بتموت العلاقات معاهم؟
غالبًا للأسف: أيوه. بتتحول العلاقة بين الإخوة لحسابات: “مين كلمني؟ أنا مش هكلمه إلا لما ييجي هو”، “أنا ماليش دعوة… هي اللي بعدت”، “ده ظلمني في الميراث”، “دي أمي كانت بتحبه أكتر”… وهكذا يتحول الدم الواحد… لعدو مباح الخصام.
فين اللي يبدأ؟ فين اللي يشيل راية لمّ الشمل؟
مش لازم يكون “الكبير” هو اللي يبدأ دايمًا، لأن صلة الرحم مش رتبة، دي أمانة في رقبة الكل. سواء كبير أو صغير… كلنا هنُسأل. ربنا مش هيقبل أعذار “هو اللي بدأ”، ولا “أنا مشغول”، ولا “أنا مليش خلق”. “ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها” – حديث شريف.
كل واحد فينا يقدر يكون سبب في لمّة، في صلح، في دعوة خير، في إعادة دفء. اللي هيبدأ مش ضعيف، ده قوي في ميزان ربنا. واللي يسامح مش مكسور، ده عالي في نظر السماء.
مفهوم غلط: “البنت مالهاش دعوة”
كأن البنت لما تتجوز، تسقط عنها صلة الرحم! فيه بنات تقولك: “أنا مش بسأل على إخواتي الولاد، هم الرجالة، يسألوا هما”، فين ده في ديننا؟ فين ده في الرحمة والإنسانية؟ صلة الرحم على الكل، مش حسب النوع.
العلاقات بالمصالح؟ مش صلة رحم.
اللي بيكلمك لما يحتاجك، واللي يزورك عشان عندك مصلحة، واللي يسأل ويظهر بس وقت ما يكون ليه غرض….. دي مش صلة رحم، دي صفقة اجتماعية! مش لازم تكون العلاقة متبادلة عشان تُحسب صلة رحم، ومش لازم التاني يبتدي عشان تتحرك. “ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها” – حديث شريف. يعني متستناش المقابل، ووصلك لأهلك مش مشروط بمعاملتهم… وصّلك لربنا قبل ما يكون ليهم.
الحما مش “عدو”… والأصهار مش عبء!
في ناس بتعتقد إن أم الزوج أو أم الزوجة مش صلة رحم. لكن الحقيقة؟ ربنا جمعنا مش بس بالدم، لكن بالمصاهرة، وقال: “وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله” يعني مرات ابنك وأهلها، جوز بنتك وأهله… كل دول من الرحِم، ولازم نحافظ عليهم.
أصبح طبيعي نشوف بنت بتتكلم عن أهل جوزها كأنهم غُرب، وولد بيتهرّب من زيارة أهله عشان مراته ما تتضايقش. فين صلة الرحم؟ فين الرحمة اللي اسمها مأخوذ من “الرحم” نفسه؟
ثقافة مغلوطة زرعتها دراما سامة، ونماذج شاذة، وتضخيم لكل تصرف، حتى بقى عند بعض البنات إن الحما لازم تكون “متسلطة”، والكنّة لازم تبقى “مظلومة”. فين التربية؟ فين الفطرة؟ ده الرسول عليه الصلاة والسلام قال: “ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه” والحما دي مش بس كبيرة في السن، دي أم زوجك، أم ابنك، وربنا جمع بينكم مش صدفة، بل لحكمة.
الحما مش لازم تحبك زي بنتها، بس الاحترام والود لا يحتاج حب غامر، يكفي نية طيبة وتقدير بسيط. وبالمقابل، الأم اللي تفضل بنت على بنت، أو تحب ابن وتظلم الآخر، تبقى زرعت القطيعة بإيديها! وأي أم تتسبب في قطع رحم أولادها، هتتحاسب. والعدل مش اختيار، ده فرض.
مناسبات… من غير معاني
النهاردة، لما نتجمع في فرح أو عزاء، أولادنا يسألوا: “هو ده ابن مين؟”، “ودي تبقى لنا إزاي؟” ليه؟ لأن معرفوش بعض. مين المسؤول؟ إحنا. بْعدنا عن الله، عن القدوة، عن العيلة، وانشغلنا بمظاهر خاوية.
هل صلة الرحم حقيقية ولا مزيفة؟
لو علاقتك بأهلك ماشية حسب وضعهم الاجتماعي أو حسب تعاملهم معاك وقت الميراث، أو حسب مين الأقرب لمزاجك… فدي مش صلة رحم.
صلة الرحم تعامل مع الله أولاً، مش مع الناس. “ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟” قالوا: بلى يا رسول الله، قال: “إصلاح ذات البين” إصلاح العلاقات عبادة. وفي زمننا، عبادة صعبة… لكنها عظيمة الأجر.
علاج القطيعة؟
خفف ظنونك، ونقّي قلبك.
علّم أولادك يسألوا على خالاتهم وعماتهم واعمامهم قبل ما يسألوا عن أصحابهم.
ماتنقلش الكلام، حتى لو حقيقي.
افتكر دايمًا: “خيركم من يبدأ بالسلام”
لما تتجمعوا، عرّف أولادك بأولاد إخواتك، وأكد عليهم إن دي صلة رحم… مش صدفة.
الميديا: شريك خفي في الجريمة! الدراما، والسوشيال ميديا، والمحتوى اللي بيظهر لنا يوميًا… مش بس بيحكي قصص، ده بيزرع أفكار، ويشكّل سلوك.
صورولنا الأخت دايمًا غيورة، والزوج أناني، والزوجة لازم تختار بين بيت جوزها وأهلها، والحما لازم تكون مصدر أذى ومؤامرات. كل دا بيتكرر لدرجة إنه بقى “نموذج”، وللأسف فيه ناس صدّقته وبدأت تقلده من غير ما تحس.
الأفلام والمسلسلات بدل ما تكون وسيلة وعي، بقت بتغذّي سوء الظن، وتعلم أولادنا إن أقرب الناس ليهم هما أول ناس لازم يحذروا منهم!
البنت اللي تشوف بطلة مسلسل بتقطع أهلها عشان زوجها، هتفتكر إن دا الطبيعي. والولد اللي يشوف حماه في كل مشهد عدو، هيخاف حتى يقرّب من أهل مراته. والأم اللي تسمع طول الوقت إن الحما شريرة، هتصدق إنها لازم تاخد دور الشر في حياة مرات ابنها.
المصيبة؟ إن الميديا ما بتورّيش العواقب: لا قلب اتكسر، ولا رحم اتقطع، ولا دعوة اتحرمت، ولا بركة راحت. كل اللي بيهمهم هو المشهد، مش الحقيقة.
وعلشان كده، لازم نكون وعيين. مش كل اللي بيتعرض قدامنا يمثلنا، ومش كل اللي بيتكرر صح. إحنا عندنا دين، وسنة، وقيم، وأعراف طيبة، ونماذج أسرية عظيمة، لكن للأسف ما بتتسلطش عليها الأضواء.
…لكن رغم كل ده، الإعلام ممكن يكون سلاح نافع لو اتوظّف صح.
ليه ما نسلّطش الضوء على النماذج الحلوة؟ على الأخت اللي سند، والزوج اللي عادل، والحما اللي أم تانية، والبنت اللي بتعرف توازن بين بيتها وبيت أهلها، والابن اللي شايل أهله على كفوف الراحة!
ليه ما نزرعش في ولادنا صور طيبة بدل ما نرّبيهم على الخوف والشك؟ عايزين محتوى يعلمهم الرحمة، الصبر، التسامح، وحب العيلة. مش لازم كل دراما تبقى مأساة، ومش كل خلاف لازم ينتهي بقطيعة.
الإعلام ممكن يصلح اللي بوّظه، لو رجع يشتغل ضمير. وإحنا كمان نقدر نختار إيه اللي ندخله بيوتنا، وإيه اللي نمنعه عن عيالنا.
كل مشهد بنعديه، وكل كلمة بنضحك عليها، ممكن تكون لبنة في بناء أو هدم قيمة جوة أولادنا… فلنختار بعين ووعي.
فى نهاية مقالى…كلنا مقصرين، كلنا تعبنا من العلاقات المسمومة، ومن الناس اللي بتتغير، ومن الزعل اللي ملوش سبب واضح. لكن رغم كل ده، خلّي دايمًا نيتك لله، خلّي رحمك موصول، حتى لو من طرف واحد. لأن في نهاية اليوم، إنت مش بتتعامل مع الناس… إنت بتتعامل مع رب الناس.
بس لو كل واحد فينا بدأ بنفسه، ومد إيده بصدق، واتعامل مع أهله كأنه بيتعامل مع ربنا مش معاهم… الدنيا هتتغير. زور، اسأل، سامح، ادي، حتى لو مفيش مقابل. اصنع المعروف في أهلك، فإن الرحم لا تقطع من كريم.
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.