قراءة نقدية فى كتاب بريد الآلهة بقلم د. إكرام عيد
قراءة نقدية فى كتاب بريد الآلهة بقلم د. إكرام عيد

قراءة نقدية فى كتاب
بريد الآلهة
بقلم د. إكرام عيد
ذات ليلة من تلك الليالي التي تتسلل فيها الكتب خِلسة إلى أرواحنا ، وقعت بين يديّ “بريد الآلهة” لميثم الخزرجي .
ظننت لوهلة أنني سأطالع مجموعة قصصية عابرة ، ولكن ما إن فَتَحتُ أول صفحة حتى أدركت أنني على وشك عبور بوابة لا عودة منها إلى عالم مسكون بالهواجس والأطياف ،
عالمٍ يشبه الرؤى حين تختلط بالكوابيس وتصبح أكثر صدقًا من الواقع ذاته .قراءة نقدية في كتاب بريد الآلهة
كان الكتاب أشبه برسالة مختومة بالشمع الأحمر أرسلها إلينا الهاربون من متاهات الأرض ،أولئك الذين خذلتهم مُدُنهم فأقسموا أن ينقشوا حكاياتهم على جدران النسيان .
مشيتُ في أروقة هذه الحكايات كما يمشي طفلٌ ضلّ طريقه في مدينة بلا خرائط . كل قصة كانت عالمًا قائمًا بذاته لكنه مغمورٌ بنفس الشعور العميق بالخذلان الإنساني ، بالحاجة إلى النجاة ، بالرغبة المستحيلة في الفكاك من لعنة الحياة اليومية .
قراءة نقدية في كتاب بريد الآلهة بقلم د.إكرام عيد
التقطني مرهون الحمال بعربته العتيقة وهو يجر أقدامه الثقيلة على رصيف السوق صاعدًا في سماء الغرابة حتى اصطدم بجنية متمردة على قوانين العقل ، قرأت حكاية مرهون كما لو كنت أشهد انهيار رجولة بأكملها ، لا أمام قوى خارقة كما ظنّ ، بل أمام هشاشة إنسانية عارية لا تجد لها خلاصًا في الحب أو العمل أو حتى في لعنات العرافين .
كانت تلك الجنية التي أغرته ليست إلا صورة أخرى من وجع المدينة نفسها ،
من سوقها العفن وألسنتها المسمومة وحاجتها الدائمة إلى ضحية تلوكها الشائعات .
وكلما أوغلتُ في السردِ شعُرتُ أن القصص تتنفس من تحت جلدها نصوصًا أخرى متداخلة ، لا تقول كل شيء دفعة واحدة ,
كنها تزرع الشك في كل يقين ، والأسى في كل ضحكة ، والخذلان في كل محاولة خلاص .
https://www.facebook.com/groups/2004366466535948/?ref=share&mibextid=NSMWBT
كأن الخزرجي كان يرسم خريطة للألم الإنساني متلبسة بأقنعة السخرية والمغامرة والأسطورة
ثم جاءني رؤوف ،
الفتى الرسام المسكون بالألوان ، لكنه حين يحاول رسم ملامح الوجوه يجد نفسه يرسم ملامحه الخاصة كل مرة .
تملكني هذا المشهد ، أحسست أنني أرسم معه وأنني أنا أيضًا كلما حاولت أن أكتب عن الآخرين وجدت وجهي هناك شاخصًا من بين الحروف متسائلًا عن ذاته وسط عتمة الوجود .
https://chat.whatsapp.com/JUmgQPPdwUp2YHNbxf3ms9
لم يكن “بريد الآلهة” مجرد مجموعة قصص قصيرة ،
بل كان رسالة طويلة كتبها كاتب يعرف جيدًا أن الهزيمة الحقيقية لا تأتي من الخارج ، بل تنبت في الداخل ،
من الحلم حين يتعفن ، ومن الذاكرة حين تتآكل أطرافها بفعل النسيان .
أما ذروة الرحلة فكانت حين خطفتني أسطورة تلّ بشارة ، حيث لا تعود الحدود بين الخرافة والحقيقة واضحة . من كان يظن أن التنقيب عن الألواح السومرية المفقودة سينقلب إلى تنقيب عن الذات نفسها؟!
لم يكن التلُّ إلا مرآة لما تحت جلد هذا العالم :
الأسطورة الحية التي نحياها دون أن ندري ، العبودية المختبئة تحت قشرة الحرية ، الخوف الذي يزرع آلهة جديدة في كل قلب مهزوم .
حين طويت الصفحات الأخيرة، شعرت كما لو أنني خرجت من مغارة كان صدى صوتي يعيد إليّ أسئلة كنت أهرب منها منذ زمن بعيد : هل نحن حقًا من نكتب القصص، أم أن القصص هي التي تكتبنا؟ هل نعيش أحلامنا أم أن أحلامنا تعيشنا وتموت قبل أن نولد؟
ميثم الخزرجي لم يمنحني إجابات جاهزة، بل تركني أغوص في أسئلتي العتيقة، أدمي يدي وأنا أبحث عن حواف النجاة في عالم لا حواف له. ولعل هذا هو أجمل ما يقدمه الأدب الحق: أن يجعلنا نعرف كم نحن وحدنا، وكم نحن رغم وحدتنا- جزء من قصة أكبر بكثير مما تخبرنا به الكلمات .
وأنا أغلق كتاب “بريد الآلهة”، شعرتُ أنني لا أغلق كتابًا ، بل أطوي خريطة سرية رسمتها يدٌ ترتجف من فرط الصدق . لم تكن القصص مجرد حكايات بل كانت ظلالنا التي نهرب منها كل يوم .
علمني ميثم الخزرجي أن الحكاية حين تكون صادقة لا تكتفي بأن تُروى ، بل تنمو في القلب مثل نبتة برية لا تخضع لقوانين البساتين .
ربما لهذا السبب أنا “مدمنة كتب” بكل جوارحي:
لأن الكتب وحدها تعرف كيف تضع أيدينا المرتجفة على جراحنا التي لا نراها، وتقول لنا:
“ها أنتم… بشروخكم… بآلهتكم… بخيباتكم… ولكنكم تنبضون بالحياة!”
لو أنني كتبت هذه القراءة وأنا أرتدي قفازات النقد البارد، لقلت الكثير عن جماليات السرد وبراعة اللغة، ولكنني اخترت أن أكتبها وأنا أرتجف، كما ترتجف الأصابع التي تمسك بشيء غالٍ.
ولذا، يا رفاق الحلم والكلمة، أوصيكم ؛
حين تمسكون بهذا الكتاب لا تقرؤوه بعقلكم فقط …
بل افتحوا له باب القلب ودعوه يعبر خلسة إلى حيث تختبئ أحلامكم القديمة .
قراءة نقدية فى كتاب
بريد الآلهة
بقلم د. إكرام عيد
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.