الهاربة من الزمن بقلم د.اكرام عيد
إكرام عيد تكتب للمساء العربي الهاربة من الزمن

الهاربة من الزمن
بقلم د.اكرام عيد
أغمضت نور عينيها والبرد يلف قلبها، كأن الزمن ذاته يختبر صبرها. في تلك اللحظة كانت تسمع كل شيء:
صوت قلبه الذي يقرع صدره خوفًا عليها، همسات الريح وهي تدور في الدهليز الحجري، أنفاسها التي تتسارع بين تردد ورجاء.
كانت الدائرة المقدسة التي وقفت فيها مرسومة بخطوط من مسحوق الذهب والرماد الأسود، يتلألأ نورها الغامض مع اكتمال البدر فوقهما. وعلى أطراف الدائرة، وقفت أربعة تماثيل لإيزيس تحمل مشاعل تزداد وهجًا كلما اقتربت اللحظة الفاصلة.
شدَّت نور على يد آمون حتب، وتذكرت كل ما عاشته هنا خلال أسابيع قليلة بدت لها كعمر كامل:
سهراتهما على ضفة النيل حين كان يعلمها أسماء النجوم بالعربية القديمة، تلك النظرة التي كان يرسلها إليها فتشعر أن في قلبها جناحين، لياليهما في المعبد السري يقرآن البرديات معًا بحثًا عن الخلاص، لمسات يده الحانية على شعرها حين كان يطمئنها.
همست بشفتيها المرتعشتين:
— قل لي… لو اخترت البقاء، ماذا سيحدث؟
تأمل وجهها طويلاً. بدت له في تلك اللحظة أقل شبهًا بفتاة غريبة وأكثر قربًا إلى روحه من كل نساء مصر.
قال بصوته العميق المكسور بالحنين:
— إن بقيتِ… ستصيرين جزءًا من قدري. ستهربين من كل من يطاردكِ معنا، ربما ننجو وربما لا. لكنني… لن أترككِ أبدًا.
— وإن عدتُ؟
— وإن عدتِ… سأظل هنا. سأحيا حياتي… لكنني كلما رأيت زهرة لوتس، سأتذكركِ. كلما حلّ الليل… سأبحث عن نجمتكِ في السماء.
رفعت رأسها إلى القمر، دموعها تنهمر صافية. كانت تشعر أن روحها تنقسم نصفين: نصف يريد أن يحتضن زمنها، ونصف يريد أن يظل أسيرة هذا الحب المستحيل.
جاء صوته مرة أخرى، أقرب إلى الرجاء:
— اختاري قلبكِ، يا نور.
امتدت يدها ببطء نحو صدره، وضعت راحتها فوق قلبه الذي يخفق بقوة:
— قلبي… بقي هنا منذ أول مرة رأيتك فيها.
في تلك اللحظة، اهتزت الدائرة المقدسة، تراجعت ألسنة اللهب، وارتجّت الحجارة تحت أقدامهما. البردية كانت صريحة: من يختار البقاء، يصبح جزءًا من هذا الزمن، وتُمحى صلته بالزمن الذي أتى منه.
لم تعد قادرة على التفكير. فقط أغمضت عينيها، وسارت نحوه خطوة واحدة.
ثم…
حين فتحت نور عينيها، وجدت نفسها لا تزال واقفة داخل الدائرة. لكن الدهليز لم يعد كما كان. لا حرس يطاردونها. لا تعاويذ. فقط صمت ثقيل.
نظرت إلى يدها… لم يكن وشم اللوتس على معصمها. بل صار وشمًا أكبر يلتف حول ساعدها، كأنه تعويذة حياة جديدة.
رفع رأسه إليها، وعرفت من نظرة عينيه أن القرار قد كُتِب.
— لقد اخترتِ…
https://www.facebook.com/groups/2004366466535948/?ref=share&mibextid=NSMWBT
أومأت برأسها.
— نعم. بقيت.
اقترب منها ببطء، وكأن أي حركة سريعة قد توقظ الحلم وتعيدها إلى زمنها. رفع يده إلى وجهها، مسح دمعتها، ثم طبع قبلة طويلة على جبينها.
— مرحبًا بكِ… في قدركِ الجديد.
كانت تعلم أن حياتها لن تكون سهلة. أنها قد تهرب كل ليلة، وقد تخشى أن يكتشف أحد سرها. لكن داخلها يقين واحد: أن بعض الحكايات تستحق أن نخوضها حتى آخر النفس.
وفي تلك اللحظة، بين صدى خطواتهما المغادرة من الدهليز، وعطر البخور العتيق، عرفت نور أن قلبها لن يعود إلى موطنه أبدًا… لأنه وجد موطنه الحقيقي هنا .
الهاربة من الزمن
بقلم د.اكرام عيد