*آلام وأحلام*
*آلام وأحلام*
بقلم / محمد شكري
كثيرًا ما يكون لدى الكثيرين فيض هائل من الأحلام والأمنيات والرغبات والآمال… التي لا عِداد لها؛
فتجد معظمهم يهيم بها أملًا في تحقيقها والظفر بها لعيش الحياة المشرقة، المأمولة التي تنسجها الأحلام وتشيدها الأماني، وتصطنعها الأهواء ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه!
فليست الأحلام هروبًا من الواقع، بل هي مرآةٌ تعكس ما نخفيه من جروح، وليست الآلام نقصًا في الحظ، بل وقودٌ يُشعل فينا سؤالًا وجوديًا: ماذا نفعل بهذا الثقل الذي نحمله على كاهلنا،
وهل نستحق أن نحلم رغم كل شيء؟ هذه العلاقة الغامضة بين الآلام والأحلام ليست معادلةً رياضيةً تُحلُّ بالمنطق، بل لغزٌ يكتبه الإنسان على جدران روحه، حرفًا حرفًا، بدمائه وأمنياته.
*أحلام بلا هدف!*
كثيرون للأسف يمضون في الحياة بلا أهداف أو مقاصد محددة لأحلامهم وآمالهم المنشودة، مكتفين بالغرق في التمني،
لا بالتخطيط والرؤى المستقبلية. يمضون تائهين في سراب الحياة وظلامها بلا هدى أو دافع أو تخطيط مسبق أو وجهة محددة لطريق النجاح،
ثم ما يلبثون أن تصدمهم النتائج على حين غرة بما يخبئه الدهر لهم من ضياع لأحلامهم وآمالهم وتحطمها… كتحطم الزجاج على الصخور!! وقتئذ تجدهم غارقين في أحزانهم، نادبين سوء الحظ والطالع، ملقين باللائمة على الدهر والعقبات والظروف…
ولكن من يعتب على الدهر تطل معتبته!! فالتمني جميل إن نحن أصقلناه بالتخطيط والمثابرة والعمل الجاد؛
فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا كما قال شوقي. وهذا بالضبط ما تفتقر إليه الفئة الحالمة المتجمدة في قالب التمني والأحلام. الحيوانات تُحارب من أجل البقاء،
والنباتات تتكيف مع الظروف المتغيرة، لكن الإنسان وحده من يبكي على فشله، ويبتسم في وجه المجهول، ويصنع من ألمه قيثارةً يعزف عليها أغانٍ لم تُسمع من قبل.
الألم هنا ليس عدوًا بل شاهدٌ على أننا أحياء بما يكفي لنشعر. والحلم ليس خيالًا، بل تمرُّدٌ على فكرة أننا محكومون بالواقع والوقائع. عندما يُولد طفل في غرفة مظلمة،
أول ما يفعله هو البكاء. ربما لأن الظلمة تُذكِّره بأنه خُلق من تراب الأرض، لكنه حين يفتح عينيه ويبحث عن ضوء، يبدأ الحلم. هكذا نحن: نُولد من رحم المعاناة،
لكننا ننمو باتجاه الضوء. الفرق بيننا وبين ذلك الطفل أننا نتعلم مع الوقت أن نحمل الظلمة داخلنا، ونصنع منها سراجًا ينير لنا الطريق إلى النجاح!
*إنما الحلم بالتحلم!*
الأحلام الكبيرة لا تولد في القصور، بل في الزوايا المهمَشة حيث يُلامس اليأس الأمل؛ فالليل هو بداية النهار والنهار هو بداية الليل. تاريخ البشرية بأسره لم يُكتب بأيدي الأقوياء وحدهم، بل بدماء الذين رفضوا أن تُدفن أحلامهم تحت تراب الظروف.
هل سمعتم عن “غسان كنفاني” الذي حوّل جرح وطنه إلى كلمات؟ أو عن “فان چوخ” الذي رسم النجوم رغم أن ظلام الاكتئاب كان يلتهمه؟ الألم هنا ليس عائقًا، بل حبرٌ يكتب به الإنسان سيرته.
لكن ماذا عن الأحلام الصغيرة؟ تلك التي لا تُغيّر العالم، بل تُصلح جزءًا من قلب حالمها: أمٌّ تُضحّي بسنوات عمرها كي ترى ابنها يخطو أولى خطواته،
عاملٌ يواجه شمس الظهيرة كي يُعلِّق في بيته مصباحًا جديدًا، طفلٌ يُخبئ نقوده تحت وسادته كي يشتري غيمةً في يوم قائظ. هذه الأحلام ليست أقل عظمة؛ إنها برهانٌ على أن الإنسان قادرٌ أن يزرع وردةً في فم التنين.
*عندما يصبح الحلم ألمًا*
لكن ماذا لو تحوّل الحلم نفسه إلى جرح؟ حين نُدرك أن السعي وراء المستحيل قد يتركنا عراةً في منتصف الطريق. هل هذا فشلٌ أم ضريبة الوجود؟ ربما يكون هذا هو السر: أننا نحتاج إلى أن نُجرح كي نعرف أن أحلامنا تستحق الدم. الفيلسوف “نيتشه” قال: “مَن له سببٌ يعيش لأجله، يستطيع أن يتحمل أي شيء”. لكني أقول: مَن له حلمٌ يموت لأجله، قد يكتشف أن الحياة تستحق أن تُعاش.
الأحلام التي لا تُكلّفنا آلامًا هي كالطيور التي ترفرف حولنا لكنها لا تلمس الأرض. أما تلك التي ننزف من أجلها، فتصير جزءًا من هواء تنفُّسنا. ربما لهذا نحن نحتفي بالفنّانين والمبدعين: لأنهم يدفعون ثمن أحلامهم علنًا، فيذكّروننا بأن الجمال ليس مجرد فكرة، بل جرحٌ مُزيَّن بالأمل. فليست الأحلام هروبًا من الآلام، بل هي بصماتها على جدران الروح. وكما يُنحت التمثال بالإزميل والكد والألم، تُنسج الأحلام بخيوط من نار المعاناة. هنا، حيث يتشابك الظل والنور، الأمل واليأس، يُولد ألم يُضيء، وحلم يُوجع!
*لا حياة بدون ألم!*
قديماً، قالوا: “من لا يحمل جرحًا، لا يحمل حكاية”، أو كما قال ابن القيم: “من آثر الراحة فاتته الراحة”. الآلام والأحلام هي لغز الإنسان الذي لا سبيل إلى حله. فالحضارات العظيمة بُنيت على أحلام مُلتهبة، لكنها أيضًا سُقيت بدماء التضحيات. الفنان يخلق من ألمه جمالًا، والعاشق يحول فراقه إلى قصيدة. حتى في أبسط التفاصيل: الأم التي تمسح دموعها لتُري طفلها ابتسامة أمل، أو الثائر الذي يرفع شعار الحرية بين رصاصات الخيانة.
الألم ليس عدوًا للحلم، بل هو مُعلِّمه الأول. ففي لحظات السقوط، حيث ينكسر الواقع كزجاج هش، تُولد الشقوق مساربَ للضوء. كم من حلمٍ وُلد تحت وطأة الدموع! كاللؤلؤ الذي يتشكل في أعماق المحيط، مُحاطًا بالظلام والضغط. الألم هنا ليس عقبة، بل تربةٌ خصبة؛ فالشاعر الذي يُغلق عليه باب السجن يرى في صدى خطواته إيقاع قصيدة، والطفل الذي يفقد أمان الطفولة يبني في خياله عالمًا من الأساطير. الأحلام، بهذا المعنى، ليست ترفًا، بل ضرورةٌ بيولوجية كالتنفس والهضم والحركة.
*الأحلام التي تذيب القيود*
لماذا نحاول فصل الألم عن الحلم؟ كأن نحاول فصل الليل عن النهار أو الظل عن النور. الحياة ليست اختيارًا بينهما، ط
بل هي قبولٌ لاقترانهما المُعقد. ففي النهاية، الألم هو الوجه الخفي للأمل، والأحلام هي الوجه المُضيء للأوجاع.
ربما لهذا نحن نضحك عبر الدموع، ونحلم حتى ونحن ننزف. هنا، في هذا الاقتران العجيب، نكتشف أننا أحياء، أو بعبارة أخرى من يحلم رغم تجشم العناء وتكبد مشاق الحياة تخضع له عظائم الفرص.
*آلام وأحلام*
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.