
ابتلع الغياب طفلاً في قلب بطولة الجمهورية
كتبت : رنيم علاء نور الدين
في يومٍ كان يفترض أن يكون احتفالًا بالمهارة والقوة، يومٌ امتلأت فيه مدرجات مجمع حمامات السباحة باستاد القاهرة الدولي بصيحات الأهالي وتشجيع المدربين… لم يكن أحد يتوقع أن يتحول سباق قصير، لا تتجاوز مدته ثوانٍ، إلى لحظة غرق امتدت لثلاث دقائق وأربعٍ وثلاثين ثانية، دون أن يراها أحد.
يوسف محمد أحمد عبد الملك—طفل في الثانية عشرة، سبّاح يحب الماء أكثر مما يحب الكلام—دخل المسبح صبيحة ذلك اليوم بثقة لاعِب يشارك في بطولة الجمهورية. كان كل شيء يبدو طبيعيًا: طاقم إنقاذ يقف على الأطراف، حكّام يراقبون خطوط السير، أطباء على أهبة الاستعداد… أو هكذا بدا.
لكن الحقيقة التي كشفتها التحقيقات لاحقًا كانت مختلفة تمامًا.
بدأت القصة عندما تلقّت النيابة العامة بلاغًا بوفاة يوسف أثناء مشاركته في البطولة. انتقلت النيابة مباشرة إلى موقع الحادث، لتجد أول فجوة: لا توجد آلات مراقبة داخل الحمام الرئيسي للمسبح يمكن الاعتماد عليها لفهم ما حدث لحظة بلحظة. انتقلت النيابة بعدها إلى مقر الاتحاد المصري للسباحة، وضبطت الملف الطبي للطفل، إلى جانب مقطع مرئي كامل يوثق ما جرى. ثم بدأت المفاجآت تتكشف.
عند تفريغ كامل المقاطع المرئية—دون حذف أو قص—ظهر المشهد الذي هزّ الجميع:
يوسف يصل إلى نهاية السباق، يحاول التقاط أنفاسه… ثم يهبط تدريجيًا إلى قاع المسبح. جسمٌ صغير ينزل دون مقاومة، يغيب، يختفي عن الأنظار.
لا حكم لاحظه.
لا منقذ قفز.
لا أحد رفع صوته.
ظل يوسف في القاع ثلاث دقائق و34 ثانية كاملة—وهو زمن يساوي عمر كارثة—حتى تم اكتشاف غرقه بالصدفة أثناء فعاليات السباق التالي.
التحقيقات لم تتوقف عند المشهد المؤلم.
استمعت النيابة لشهادة والد يوسف، والمدرب الخاص به، ووالد متسابقة أخرى
الجميع قالوا الكلام نفسه تقريبًا:
إهمال. تقصير. غياب للرقابة. لائحة لم تُطبق. قوانين لم تُحترم.
أكثر من عشرين شاهدًا أدلوا بأقوالهم أمام النيابة، من بينهم مسؤولون كبار في وزارة الرياضة، أعضاء لجان طبية، مدراء داخل الاتحاد، حكام، منقذون، وأطباء كانوا في الموقع لحظة استخراج جسد يوسف من الماء.
جميعهم—بلا استثناء تقريبًا—أكّدوا أن الحكم العام وطاقم الإنقاذ لم يقوموا بدورهم.
الخطأ لم يكن “حادثًا عابرًا”… بل سلسلة متتابعة من الإخلال بالواجب.
بل إن اللجنة المشكلة بقرار وزير الشباب والرياضة أكدت في شهادتها أن الاتحاد المصري للسباحة ونادي الزهور لم يلتزما بأحكام قانون الرياضة ولا بالكود الطبي لعام 2024. وأن الملف الطبي ليوسف كان ناقصًا، خاليًا من التقارير التي يفرضها القانون قبل السماح لأي طفل بالمشاركة في البطولات الرسمية.
كل ذلك كان كافيًا لاتهام الحكم العام وثلاثة من طاقم الإنقاذ بالتسبب المباشر في وفاة يوسف، ليأمر قاضي المعارضات بتجديد حبسهم 15 يومًا على ذمة التحقيق.
ومع ذلك… التحقيقات لم تنته بعد.
النيابة تستدعي رئيس الاتحاد المصري للسباحة ومسؤولين آخرين.
تنتظر تقرير الطب الشرعي النهائي.
وتوسع دائرة الأسئلة لتصل لكل شخص كان له دور، أو كان ينبغي أن يكون له دور، في منع ما حدث.
لكن وسط كل هذا، يبقى سؤال واحد… السؤال الذي يعبر فوق أوراق التحقيق ويصطدم بقلوب الأهالي:
كيف يغرق طفل في سباق رسمي أمام أعين حكّام ومنقذين وأطباء… دون أن يراه أحد؟
ابتلع الغياب طفلاً في قلب بطولة الجمهورية
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.



