
الموقعة الإيرانية … جادة أم رمزية ؟
شَهدت منطقة الشرق الأوسط على مدار إثنى عشر يوماً خلال شهر يونيو من هذا العام 2025 إعتداءاً إسرائيلياً جديداً على الأراضي الإيرانية،. إستكمالاً لسلسلة الإعتداءات التى شملت سوريا وحزب الله فى الجنوب اللبناني، وجبهة أنصار الله فى اليمن، تلك الإعتداءات التى حذرت من تبعاتها على الأمن والإستقرار فى منطقة الشرق الأوسط العديد من دول العالم وفى مقدمتها الدولة المصرية ودول الخليج العربي، تحسباً من توسع الصراع فى حالة حدوث صدام مباشر بين إيران وإسرائيل فى حرب شاملة تهدد الأمن والسلم فى كل دول المنطقة، كما تمثل تهديداً مباشراً على حركة التجارة العالمية، وتمثل تلك المحاذير نتيجة منطقية للحرب الشاملة بين إسرائيل وإيران طبقاً لمفاهيم الحرب الشاملة المتعارف عليها.
وفشلت جميع الجهود للحيلولة دون بداية الصراع عندما بدأت الضربات الجوية الإسرائيلية التى إستهدفت المواقع العسكرية ومصافى البترول والكيانات الصناعية والإقتصادية، وعمليات الإغتيالات التى طالت العديد من صفوة القادة العسكريين والأمنيين وعلماء الطاقة النووية فى العمق الإيراني، تلك الضربات التى ترتب عليها إعلان إيران بحق الرد بإطلاق الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة بنوعيها الهجومية والإنتحارية التى ثبت كفاءتها وفعاليتها حين إستخدمها الجيش الروسي فى الحرب الروسية الأوكرانية، ولم يتأخر الموقف الأمريكى من إعلانه تحريك قدراته العسكرية من حاملات الطائرات والغواصات لمنطقة الشرق الأوسط، إستعداداً للتدخل المباشر بما يحفظ أمن وبقاء الكيان الصهيوني .
وبدأت وكالات الأنباء العالمية والقنوات الإخبارية فى المنطقة والعالم تعلن عن بداية الحرب الإسرائيلية الإيرانية فى ترقب منها وممن يتابعها لتلك اللحظة التى يخشاها الجميع، من تحول المنطقة إلى جحيم لا ينتهى ولا ينجو منها أحد.
ولم يكن هذا الترقب من فراغ ولكن كان مبنياً ليس فقط على تلك الهاله من التضخيم للقدرة التدميرية للصواريخ الباليستية التى روج لها النظام الإيرانى ومدى دقتها لحظة الإعلان عنها، وعرضها ضمن العروض العسكرية التى كان يحرص رأس النظام الإيراني على حضورها، ولكن أيضاً على الترويج الإسرائيلي لمخاوفها من قدرات تلك الصواريخ التى تهدد وجوده بالمطلق.
وما لبثت تلك المخاوف والتوقعات أن تتضاءل لدى المتابعين للأحداث يوماً بعد يوم مع ضآلة التأثير التدميري ومحدوديته لتلك الصواريخ الباليستية على الكيان الصهيوني، وتتابعت ردود الأفعال الدولية والتى كان أهمها الموقف الأمريكى من الأحداث، ذلك الموقف الذى تأرجح بين الوعد تارة، والوعيد تارة أخرى.
وكان آخره تلك المهلة التى أعلن عنها الرئيس الأمريكي وحددها بأسبوعين تُعلن فيها إيران الإستسلام وقبولها بالعودة لطاولة المفاوضات حول برنامجها النووى ، ومع إستمرار الصراع وتحرك وزير الخارجية الإيراني لعقد لقاءات مع الجانب الأوروبي، لم يمر يومان من المهلة حتى بدأ الجانب الأمريكى بتحريك قاذفاته بالقنابل الثقيلة الخارقة للتحصينات المسماة “بأم القنابل” لتدمير المفاعل النووى الإيرانى ب ستة قنابل، إلى جانب صواريخ موجهة أطلقتها الغواصات لتدمير المنشآت الصناعية المرتبطة بالبرنامج النووى والصاروخى الإيراني، وتلا ذلك الإستهداف إعلان إيرانى بحق الرد بإستهداف القواعد العسكرية الأمريكية فى المنطقة، ونفذت وعيدها بإطلاق ستة صواريخ باليستية على قاعدة العيديد بقطر، تلك الصواريخ التى تم إعتراضها وتدميرها فى الأجواء القطرية.
ومع بداية وأثناء وبعد إنتهاء تلك الأحداث التى أشرت إليها بإيجاز شديد، تضاربت وتباينت الآراء حولها، فهناك من وصفها بالحرب، وهناك من وصفها بالمسرحية، بينما رأيت بأن الوصف الأقرب هو.. “الموقعة الإيرانية” .. لكون الإستهداف حدث فى الأرض الإيرانية، مستبعدة وصفها بالحرب لأن الحرب الكل فيها خاسر، كما أن المسرحية لا يخسر فيها أحد والمكسب فقط لمن صاغها وأخرجها، بينما أرى جميع الأطراف فى هذه الأحداث كان جاداً فى تحصيل ما يمكن تحقيقة من مكاسب إستراتيجية من خلال إدارة دفة الأحداث، فقد حرصت إيران إستخدام القليل من القوة التدميرية القادرة على إختراق الدفاعات الإسرائيلية وإنتقاء الأهداف التى لا تثير الغضب الصهيونى والأمريكي، بينما أمطرتها كذلك بزخات من الصواريخ والطائرات المسيرة التى تستطيع الدفاعات التصدى لها ، وهذا ما فعلته أيضاً فى ردها بإستهداف القاعدة الأمريكية فى قطر، وبهذا كانت إيران جادة فى إدارة هذا الصراع من خلال رسالتين كانت الأولى للكيان الصهيوني وحليفه الأمريكي بأنه برغم قدرتها على إحداث تدمير أكبر وأوسع لإسرائيل منذ اللحظة الأولى لكنها لم تفعل ذلك فى رمزيه إلى إحترام رغبة الحليف الأمريكي، الذى يحرص على بقاء الكيان الصهيوني دون تهديد، وعدم رغبة النظام الإيرانى فى الدخول معه فى صراع مباشر يؤدى إلى دمار شامل لإيران ونظامها الحاكم، والرسالة الثانية كانت للشعب الإيراني، بأن قادتهم قادرون على مواجهة الكيان الصهيوني وحليفه الشيطان الأكبر الذى طالما روج لمعاداته فى منصاته الإعلامية الموجهة، تلك القدرة التي ترمز إلى إصرار وجدية النظام لتحقيق شعار ” الموت لإسرائيل.. الموت لأمريكا” ذلك الشعار الذى يرسخ بقاء النظام وإستدامته .
وعلى الجانب الآخر نرى الكيان الصهيوني من ناحية جاداً في إختيار التوقيت الذى يعظم مكاسبه فى تنفيذ قائمة أهدافه، فى إطار تدمير البنية التحتية لكل ما يمثل لها تهديداً فى حدود الموافقة الأمريكية التى حرصت على محدودية هذه الأهداف، والتى تحول دون القضاء على النظام الحاكم، ومن ناحية أخرى إستعادة نتنياهو وحكومته لثقة الناخب الإسرائيلي والتى أهتزت وتضاءلت نتيجة فشل الحكومة فى تحرير المحتجزين فى غزة، بالتفاوض أو حتى بالوسائل العسكرية، ولم يكن ذلك سوى رسالة رمزية للمنطقة وللشعب الإسرائيلى بقدرة إسرائيل على إستهداف من تشاء وقتما تشاء وكيفما تشاء دون أن يمنعها أحد.
وفى نفس السياق أشير إلى دور الأمير القطرى الذى قَبِلَ أن يستقبل الصواريخ الإيرانية فى أجواء قطر، رغم إدراكه بأنه لو أخفقت الدفاعات الجوية فى التصدى لصاروخ واحد، لأحدث على أقل تقدير حفرة تتوقف الحركة المرورية على إثره فى قطر لأيام حتى يتم إصلاح الحفرة، لكنه كان حريصاً على الحصول على دور فى الأحداث يزيد من حجمه أمام الدور الأكبر للأمير السعودى الشاب فى صياغة ما يدور في منطقة الخليج ..
أما الكاسب الأمريكي الأكبر فى هذه الأحداث، يتمثل فى تعطيل أو تدمير البرنامج النووي الإيراني الذى لا يحتم عليه الدخول فى مفاوضات ماراثونية قد لا تنتهى مع نهاية الفترة الرئاسية الحالية دون تحقيق النتائج المرجوة.
كما يتمثل أيضاً فى تحقيق المطلوب بالإبقاء على النظام الحاكم الإيراني الحالي مع ما تَبَقًى من قدراته الصاروخية حتى تظل تهديداً قائماً ومستمراً لدول الخليج.
ذلك التهديد الذى يعطى الشرعية للوجود الأمريكى فى المنطقة لحماية دول الخليج، تلك الدجاجة التى تبيض له ذهبا بملياراتها مقابل تحقيق أمنها.
لكل ذلك وعلى الرغم من أنى لست من المختصين بالعلوم الإستراتيجية ولا باحثة فى العلوم السياسية، إلا أنى مهتمة كمواطنة مصرية بما يدور بالمنطقة والعالم من أحداث، لم أتفق فى كون تلك الأحداث حرباً فهى أقل من ذلك، ولم أراها مسرحية لما فى ذلك من تسطيح للأحداث ، وأراها “موقعة إيرانية أطرافِها جادة فى تحقيق أهدافهم .. رمزية فى ما تحقق من مكتسباتهم”
#بنت_الطيب
اكتشاف المزيد من جريدة المساء العربي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.