الصناعة المفقودة

الصناعة المفقودة

الصناعة المفقودة

بقلم/ أحمد الجرف
يحدثنا التاريخ الذى هو ذاكرة الامم وحصاد نتاج سلوك وتفاعل البشر على ارض معينة الى أن تنمية الاقاليم المغلقة بحدود وأعراف وثقافات متشابهة ومتجانسة يحتاج إلى قيادة تفهم ماهية سلوك ساكنى تلك الارض وكيفية ادارة مواردهم فى هدف واحد وهو الإرتقاء بهم نحو أفضل منتج وبنفس المعطيات .

يأتى كل ذلك بالفهم العميق للمهارات والموارد والألمام بطرق تنمية تلك الاصول للوصول الى الهدف المنشود .

غير أن المتامل لتاريخنا يجد أن انجح فترات مصر كانت عبر تبنى صناعة القادة المؤهلين لقيادة المشهد المحلى سواء كانوا من أبناء الوطن كما كان فى عصور القوة فى العصور الفرعونية .أو من خارجة .

إن عوامل نجاح تلك الشخصية القيادية يأتي نتاج مباشراً لعملية الصهر التى تنتج تلك الشخصية .

وتشمل تلك العملية جوانب علميةوتاهيلية بالإضافة إلى جوانب وعوامل النشأة والقدرات الشخصية والظروف المحيطة كل ذلك يصهر فى بوتقة واحدة ليخرج منها شخص مختلف تماما عن البشر العاديين . له رؤية ومنظور مختلف .

أن آكبر إستثمار لأى دولة هو الإستثمار فى البشر والاستفادة منهم . كما يحدثنا الله انه عز وجل يصنع البشر ليصيروا أنبياء فالمستقرا لرحلة النبي موسي من طفل نشأ فى أمة تعانى من الاضطهاد من فرعون وكيف أنه تلقى الحياة من قلب الموت حين القته أمه فى اليم ليعيش بدلا من أن يهلك بوحى من الله،

(وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) سورة القصص الاية (7). ثم تربيته اميرا فى قصر عدوه . ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ سورة الشعراء الاية (18)

ثم يبتلى بأن يصبح هارب من محكمة فرعون بلامأوى .

(وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) سورة القصص الاية (21)،

ثم عاملا عند الناس ليجد قوت يومه بعد الحياة المرفهة فى قصر الفرعون . ثم أجيراً لدى النبي شعيب .

(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) القصص/23، 24 .

ثم زوجاً لإبنته ( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) سورة القصص الاية (27)

ثم يهاجر بها ثم يبعث ويشد عضدة باخية (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ سورة القصص الاية (35) .ويدعم بالمعجزات

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) سورة القصص الاية (32) .

ليواجه فرعون كل تلك الفترة والصعوبات كانت عملية الصهر . بالاضافة الى صفاته الشخصية النبيلة والقوية والفاضلة (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ سورة القصص الاية (26) .

كل ذلك جعل النبي موسي نبي من أولى العزم من الرسل مؤهلا لكى يكون اهلا بمهمتة كمدافع عن الحق والعدل والنصرة لامة مستضعفة فى ذلك الزمان.

ولاتعنى عملية الصهر تلك القدرة الكاملة على تفادى الصعاب وإنما القدرة على مواجهتها بصلابة وخبره. كل ذلك تحدث عنه الله فى كتابه العزيز حين قال فى أكثر من موضع ليقدم لنا نحن البشر ان القائد يصنع صناعة. ولا يولد تلقائيا حيث قال الله تعالى مخاطبا النبي موسي

( ولتصنع على عينى ) سورة طه الآية . وفى موضع اخر قال عز وجل

( وإصطنعتك لنفسي ) سورة طه الآية 41.

أيضاً كما حدث من النبي محمد صلي الله عليه وسلم أيضا .ومع القائد الفذ خالد بن الوليد .أبن أغنى القريتين وعظيمهما .ولكنه لم يعش حياة الترف الكاملة بل أعده أبوه ليكون قائدا .فكان رضى الله عنه يأكل الاطعمة الخشنة مثل الضب وهو ليس من طعام الاغنياء وانما من اطعمة البدو ويركب الخيل بل ويدربها ولم يتجاوز عمرة الاحد عشر عاما ويركب الابل ويدربها ويقاتل بكل أنواع الأسلحة ويطلع بإستمرار على طرق قتال الأمم المجاورة حتى صار قائد قبه قريش أى قائد الحرب وسلاح الفرسان فى عصره ولم يتجاوز العشرينيات بقليل . ثم قائدها المخضرم .

فكان النتاج أنه لم يهزم قط فى معركه .خاض ما يزيد عن المائة معركة .كل ذلك التاريخ ومات رضى الله عنه ولم يتجاوز الواحد والخمسون عاما .

الأسكندر الأكبر غزا العالم القديم وحقق الكثير من الانتصارات ومات وعمره لم يتجاوز الاثنين والثلاثون عاما بفضل تاهيلية المختلف .

الشاهد ان إيجاد أشخاص لمهام خاصة يحتاج إلى قدر كبير من العناية والتأهيل والمهارات المختلفة . وليس الإنتقاء ممن يصلح من بين الجميع فحسب .

حيث لا يعد كافيا . ويظهر ذلك حتى فى الأعمال الجماعية المختلفة التى تحتاج إلى قيادة مثلا فى الالعاب الجماعية مثل كرة القدم حيث يكون النجاح أحيانا فيها مقترناً بالإستعانة بمدرب مخضرم يقود فريقه للنصر.

وذلك بفضل تأهيله المختلف ونظرته المختلفة للواقع وقراءته للمشهد بشكل إحترافى.يعج التاريخ بقادة كثر أتوا إلى مصر أفرادا صهرتهم الحياه بشكل صحيح فصاروا قادة .

صلاح الدين أتى مصر فردا مؤهلا صهره أبوة وعمه فى أعمال القتال ضد الصليبين فى الشام فقاد مصر بنفس معطياتها إلى هزيمة الصليبيين الغزاة الأوربيون فى معركة حطين وأسس دولته الايوبية القوية وكذلك أتى قطز وبيبرس ومعهم خبرات قتال المغول فى بلادهم فقادا مصر بمعطياتها الى كسر المغول وإنشاء دولة قوية فى معركة عين جالوت، 

حتى الغزاة كان منهم القادة العظام الذين أتوا بمبدا الغزو فصاروا بفضل معطيات مصر الاشهر فى العالم مثل عمروبن العاص والإسكندر ومحمد على باشا كل هؤلاء لم يضيفوا الى معطيات المصريين وإنما بفضل تاهيلهم المختلف استطاعوا أن يحولوا تلك المعطيات الى نجاح باهر .

هنا نصل إلى أننا ولابد من إعتماد صناعة القادة وأن تلك المصانع اصبحت متاحة الآن بفضل التكنولوجيا والعلماء المصريين المتناثرين فى كل أنحاء العالم , واللذين لا يستفاد بهم بالقدر الكافى فى دوائر التأهيل للقادة ولا حتى فى مجال معاونه القادة فى صياغة المستقبل .

إن الإجتهاد الشخصي ليس كافيا لأن تصبح قائدا ناجحا وإنما يلزم عملية الصهر المتكاملة كصناعة منفصلة، 

كان الملوك حول العالم يحرصون عليها لإكساب أبنائهم المهارات اللازمة لقيادة الدول ,ومع تحول الممالك الى جمهوريات وظهور الديمقراطيات المختلفة صعب عملية الانتقاء .غير ان العمل المؤسسي لدى تلك الدول سهل من عملية الصهر المطلوبة. وعوض نقص خبرة متخذ القرار. حيت أن الثوابت التى تتحرك بها الدول جعل متخذ القرار يتحرك فى دوائر مختصرة وهو يفكر فى اتخاذ القرار وصياغته .

هنا صار التحول فى آلية صناعه القادة من إعتماد كامل على الشخص إلى إعتماد كامل على دوائر المؤسسات المستقرة فى رسم مسارات اكثر وضوحا لمتخذ القرار . حيث سهلت تلك العملية من سهوله استيعاب المتغيرات ووضع السياسات الافضل دون الإعتماد على فردية الرؤى واحادية الفكر .

فظهرت هيئات القيادة واللجان الاستشارية والمساعدين كحل أساسي للعمل المؤسسي بديلا مبتكرا فى الدول الديمقراطية وصار صنع تلك الدوائر عملا إحترافيا سهل من دور ونجاح القيادة . كمثال الولايات المتحدة الأمريكية 

يمثل فيها الرئيس إتجاها فقط لعمل مؤسسي مستقر . لا يتاثر كثيرا . بنوعية الرئيس بشكل جزرى . إنما ظهر العمل المؤسسي ودورة فى تأهيل الرئيس وسرعة نضجه السياسي من خلال تفهمة السريع لنظام عمل مؤسسات الدولة والتى وفرت قدرا كبيرا من مجهود فهم الموضوعات بشكل فردى 

فالقرار الامريكى مثلا قرار مؤسسي مستقر بغض النظر الكامل عن شخصية الرئيس . هنا نؤكد على أن التحول من القائد الفردى إلى القائد الذى يمتلك مؤسسات قوية هو نمط جديد ومدرسة جديدة فى أساليب صناعة القرار وإدارة الدول .

على أن مراحل صناعة القادة والمؤسسات من وجهة نظرى تتمثل فى جوانب عدة :
الجانب الاول : يتمثل فى إختيار الصفات الأساسية للشخص

( اللياقة الذهنية – الاخلاق الحميدة – الثقافة العامة – الذكاء – الالماء بالموضوعات العامة – قبول النقد – البديهة – الخ )
الجانب الثانى : عملية الفرز والانتقاء للاشخاص المطلوبين من الشرائح المختلفة، 

الجانب الثالث: التأهيل المباشر للأشخاص المنتقاه للوظائف المختلفة دون الخوض فى الشكليات بحيث يتم تأهيل الاشخاص المتميزين فى مجالات معينة تاهيلا مباشرا لاعمال الوظائف كمثال

( تاهيل شخص للعمل كوزير للمالية لدية أساسيات يجب أن يكون لدية خبرة العمل الميدانى والتأهيل العلمى وتدرج فى وظائف عملية مالية وليست نظرية ثم تاهيلة بدورات خارج وداخل البلاد وأختباره فى حلول لمشكات مالية ثم العمل فى اللجان الوزارية كوكيل للوزاراة ثم إستشارى أول ثم ينتقى منهم من يصلح للوزارة دون التقيد بسن أو شكل أو مدة خدمة)
الجانب الرابع :إنشاء الصف الثانى والثالث كلجان استشارية دائمة تمثل سياسة الدولة وتمضى معها بنفس السياق العام وتنفذ سياسة الدولة والاتجاه العام لتوسيع قاعدة الاختيار .
الجانب الخامس : يجب ان يستفيد أصحاب المناصب والقادة بميزات مالية كبيرة وميزات اجتماعية تميزهم عن اقرنائهم حتى يكون للجهد والسعى معنى ومردود متميز .
الجانب السادس : يجب أن يتسق العمل المكلف به القائد طوال الوقت مع العمل العالمى ومواصلة الاطلاع بما يضمن التطور الدائم .
أن سنة الدفع التى اقرها الله فى الدنيا بين الخير والشر والحق والباطل تؤكد ان الظروف الاجتماعية والوظيفية لا تثبت على حال وإنما دائما متغيرة بين نجاح واخفاق وتحتاج إلى القائد المرن الذى يعيش حياته يتصدى للمشكلات بوعى العالم وثقافة المحارب وحكمة الفقيه .

لا مكان فى العالم الجديد للقيادة الصلبة ولا للراى الاحادى .

إن أذكى القرارات اليوم هو ذلك القرار الجمعى المتسق مع الإحتياجات المجتمعية برؤية ثاقبة ووعى متفهم لمعطيات المجتمع وأولياته .

وإلا أنفصلت القيادة عن المرؤوسين وعاش الجميع فى حالة رضى زائف دون إقتحام للمشكلات وحلها تلك صناعة مفقودة وكنز المستقبل المرتقب ومعينها الذى لا ينضب .

 721 إجمالي المشاهدات

عن احمد حمدي

المدير العام التنفيذي لجريدة المساء العربي

شاهد أيضاً

جنون الترند والمال والشهرة

جنون الترند والمال والشهرة    بقلم / محمود خالد     مع تقدم تكنولوجيا الهواتف والتطبيقات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

%d مدونون معجبون بهذه: